كيف تنجح المساعدات الإنسانية الخليجية في ظل نظام دولي متذبذب؟

بقلم/ الدكتور إبراهيم محمد عرفات

Entity:  كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية
د. إبراهيم عرفات

لاشك أن العلاقات الدولية، مثلها مثل كل العلاقات الإنسانية، تنسج معا بين الأهداف والمبادئ، وتدمج النوايا النبيلة مع المصالح النفعية، وتتجلى هذه العلاقة الحيوية بشكل خاص في العمل الإنساني على مدار العقدين الماضيين، إذ يعتمد مئات الملايين على مستوى العالم على التبرعات والمساعدات الخيرية. ووفقا لخطاب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في عام 2023،فإن هناك 360 مليون شخص في جميع أنحاء العالم في حاجة إلى مساعدات إنسانية، بزيادة قدرها 30 في المائة عن عام 2022. والجدير بالذكر أن أكثر من 110 ملايين شخص قد نزحوا قسرا، ويواجه أكثر من 260 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وبعضهم معرض لخطر المجاعة، فهذا الواقع الصارخ يعني أن واحدا من كل 22 فردا يعتمد على المساعدات الإنسانية لتجنب المجاعة، والصمود في وجه حالات الطوارئ مثل النزوح القسري والحروب والكوارث الطبيعية، والأمل في الحصول على التعليم الأساسي.

منذ 13 يناير 1960، سعى المجتمع الدولي إلى إنشاء آليات مؤسسية لتنظيم العمل الخيري والمساعدات الإنسانية، مما أدى إلى إنشاء لجنة المساعدة الإنمائية (DAC) المنبثقة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). ومع انتشار الأزمات الإنسانية واتساع عدد المحتاجين، نما العمل الإنساني ليصبح مصدر قلق كبير في العلاقات الدولية لسببين رئيسيين: الأول إنساني وأخلاقي، ويهدف إلى تخفيف معاناة عدد كبير من السكان المحكوم عليهم بالمشقة دون ذنب اقترفوه، والثاني: نفعي وبراغماتي، حيث تستفيد الجهات الفاعلة الإنسانية من المساعدات لاختراق الدول والمناطق، وتعزيز مصالحها الوطنية الخاصة واستخدام القوة الناعمة. وفي خضم المنافسة اليوم على المكانة العالمية، تطور العمل الإنساني إلى شكل من أشكال القوة الناعمة، حيث تعزز الدول سُمعتها ونفوذها من خلال وسائل غير تقليدية.

ومع قدراتها المالية، أصبحت بعض دول الخليج أكثر مهارة وخبرة في القيام بالعمل الإنساني على نطاق متسارع وواسع، حيث توفر لهم هذه المشاركة فرصًا للتأثير على السياسات في وقت يتعرضون فيه للنقد بسبب السرد المشوه الذي يخلط بين المال الخليجي والإرهاب، فضلًا عن الافتقار إلى الشفافية.

وإدراكًا منها لمدى تعرضها للضغوط الدولية مع حرصها على ممارسة حقوقها السيادية، سعت دول الخليج جاهدة إلى وضع استراتيجيات شاملة لأنشطتها الإنسانية، حيث تشمل أهدافها تحقيق المصالح الوطنية، وتعظيم الاستفادة من عملها، والمشاركة بفعالية في الجهود الإنسانية العالمية، وتخفيف الانتقادات التي تواجهها، وضمان وصول المساعدات إلى حيث تشتد الحاجة إليها. ومما يؤكد أهمية العمل الإنساني في السياسات الخارجية لدول الخليج حقيقة أن أربع دول خليجية وهي قطر والمملكة العربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة تُعد من بين أكبر 20 جهة مانحة للمساعدات الإنسانية في جميع أنحاء العالم، مع تطلعات لتكون من بين العشرة الأوائل بحلول عام 2030.

ورغم تبرعاتها السخية ودعمها للمحتاجين والمنكوبين، تدرك دول الخليج أن تقديم المساعدات الإنسانية خارج حدودها يجلب في ذات الوقت تحديات كبيرة، بما في ذلك اتهامها بإثارة التوترات الإقليمية. وتعود جذور العمل الإنساني الخليجي إلى العدوان الإسرائيلي عام 1967 على الدول والشعوب العربية، حيث دفع هذا الصراع دول الخليج إلى توجيه أكثر من نصف مساعداتها للاجئين الفلسطينيين في مصر وسوريا والأردن ولبنان، وعلى الرغم من أن دول الخليج أضفت الطابع المؤسسي على جهودها في مجال المساعدات من خلال إنشاء صناديق مساعدات خارجية سيادية، مثل صندوق الكويت للتنمية الاقتصادية العربية (1961)، وصندوق أبوظبي للتنمية (1971)، والصندوق السعودي للتنمية (1974)، إلا أنها تواجه انتقادات مستمرة بزعم انها تُحرِّض بعض البلدان والجماعات، مما يؤدي إلى اتهامات بدوافع خفية وحتى شكاوى مباشرة بدعم الإرهاب تحت ستار العمل التطوعي، وكان هذا الانتقاد ملحوظًا في أعقاب الربيع العربي.

كما زادت أحداث 11 سبتمبر 2001 من التدقيق في الأموال المخصصة للأعمال الخيرية من دول الخليج، مما أدى إلى زيادة الضغوط من الولايات المتحدة وأوروبا من أجل المراقبة والتنظيم الصارم لجميع التحويلات المالية الصادرة من المنطقة، كما كثفت العولمة من هذه الضغوط، مما تطلب من دول الخليج الكشف عن أنشطتها، وإظهار الشفافية، وتطبيق الشمول المالي على جميع البرامج والمبادرات الخيرية.

ومع ذلك، فإن التدقيق الغربي في الأنشطة الخيرية لدول الخليج يسبق ما يسمى بالحرب على الإرهاب وغيرها من التطورات المعاصرة، حيث تأسست لجنة المساعدة الإنمائية في عام 1961 وتضم 32 دولة معظمها غربية، وتمنح دول الخليج صفة المراقب في اللجنة وليس العضوية الكاملة. ويهدف هذا الافتقار إلى الإدماج الكامل والإصرار على الإشراف الغربي في نهاية المطاف إلى منع الدول الأخرى من الاستفادة من قدراتها المالية لبناء القوة الناعمة الوطنية. ونتيجة لذلك، أدت هذه المركزية الغربية إلى انحراف الجهات الفاعلة الإنسانية التي نشطت حديثًا، مثل دول الخليج، عن معايير لجنة المساعدة الإنمائية لتقديم المساعدات، خاصة وأن تعريف العمل الإنساني وتحديد من يجب أو لا ينبغي أن يتلقى المساعدات يتأثر بالاختلافات الثقافية والحسابات السياسية.

وفي أوطانها، لا تستطيع دول الخليج الحد من ممارسة سياساتها الخارجية الإنسانية، ليس فقط للحفاظ على قوتها الناعمة على الصعيد الدولي، ولكن أيضا لكسب الشرعية محليًا، حيث يتوقع الأفراد الأثرياء والعائلات والمؤسسات في دول مجلس التعاون من حكوماتهم دعم تبرعاتهم وجهودهم التطوعية وتأسيس المؤسسات الخيرية كجزء من التزاماتهم الدينية، ويُؤخذ دعم الحكومة لهذه الجهود في الاعتبار كمقاييس لتعزيز شرعيتها وقبولها، مما يجعل من الصعب التراجع عن مثل هذه الالتزامات بسبب الضغوط الغربية.

كما أصبح العمل الإنساني والخيري جزءا لا يتجزأ من استراتيجيات دول الخليج لتنويع اقتصاداتها بعيدا عن النفط، ودخول أسواق جديدة لخدمة أهدافها، إذ تُعزز الأنشطة الخيرية الشراكات الجديدة وتُرسخ مكانتها الدولية، ليس فقط كمانحين في المجالات الخيرية والإنسانية، ولكن كجهات فاعلة دولية تساهم في التنمية العالمية وتؤكد على دورها كدول مسؤولة وذات سمعة عالمية.

وللتغلب على هذه التحديات، ينبغي على دول الخليج تعزيز التنسيق مع المنظمات الدولية من أجل مواءمة جهودها مع المعايير العالمية، وتجنب ازدواجية العمل الإنساني، وضمان أن تعزز جهودها في ترسيخ صورة إيجابية عن المنطقة، ويمكنهم أيضا الاستثمار في بناء الكوادر المحلية والارتقاء بثروتها البشرية المتخصصة في العمل الإنساني، مما يجعلهم أكثر دراية بهذه التحديات وتعزيز تأثير واستدامة تقديم المساعدات. وأخيرا، من شأن تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص أن يعزز القدرات والخبرات المتنوعة في هذا المجال، مما يزيد من تأثير المبادرات الإنسانية إلى أقصى حد ممكن، ويُمكن لدول الخليج تحسين جهودها الإنسانية، وتعزيز مكانتها الدولية، وتقديم الدعم الحاسم للمحتاجين.

** الدكتور إبراهيم محمد عرفات، أستاذ في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حمد بن خليفة.

*تُقدم هذا المقال إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابة عن المؤلف، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن أفكاره ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.