تأليف/ الدكتورة مريم المفتاح والباحثة ريم الأسد
شهر أكتوبر من كل عام هو شهر التوعية بسرطان الثدي في جميع أنحاء العالم، بهدف زيادة الوعي وتسليط الضوء على أهمية الفحصالمنتظم والكشف المبكر. وعلى مدار السنوات الماضية، نشر معهد قطر لبحوث الطب الحيوي، التابع لجامعة حمد بن خليفة، تقارير مفصلة حول أهمية الفحص والكشف المبكريْن، ومساهمة الطب الدقيق في العلاج، والجهود البحثية في هذا المجال. ويتناول أحدثتقاريرهالجهود المبذولة لتطوير اللقاحات كخيار علاجي محتمل لمرضى سرطان الثدي.
سرطان الثدي هو أكثر أنواع السرطان شيوعًا بين النساء على مستوى العالم، حيث يشكّل نحو ربع حالات السرطان ويمثل سببًا لوفاة واحدة من بين كل ست وفيات بسبب السرطان. ووفقًا لتحليل أجراه معهد قطر لبحوث الطب الحيوي لإحصائيات السرطان لعام 2018، تُظهر الدول العربية معدلات أعلى للإصابة بسرطان الثدي والوفيات الناجمة عنه مقارنة ببقية دول العالم. وتشير توقعات منظمة الصحة العالمية إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان في السنوات القادمة نتيجة النمو السكاني وتقدم العمر وزيادة التعرض لعوامل الخطر.
مع تزايد انتشار سرطان الثدي وارتفاع أعبائه، يُعدّ الكشف والعلاج المبكر من أكثر الطرق فعالية لتحسين فرص التعافي لدى المرضى، حيث تم توثيق معدّل نجاة يتجاوز 98% خلال السنوات الخمس الأولى بعد العلاج لدى المرضى الذين يتم تشخيصهم في مراحل مبكرة من سرطان الثدي (أي المرحلة الأولى قبل أن ينتشر السرطان إلى العقد اللمفاوية المجاورة) وعلى الرغم من الجهود المستمرة لتعزيز الوعي وتشجيع برامج الفحص المبكر، إلا أن بعض الحالات لا تُشخَّص إلا في مراحل متقدمة. ونظرًا لارتفاع معدل الإصابة والوفيات في الدول العربية، هناك حاجة ملحّة لتعزيز الجهود وتكثيف حملات التوعية لضمان خضوع جميع النساء لفحوصات دورية من أجل الكشف المبكر، على أمل إنقاذ المزيد من الأرواح.
خيارات العلاج الحالية
يُصنّف سرطان الثدي إلى عدة أنواع فرعية بناءً على ظهور علامات مثل مستقبلات الإستروجين (ER) ومستقبلات عامل النمو البشري الثاني (HER2). ويُعرف سرطان الثدي الذي يفتقر إلى أي من هذه المستقبلات بسرطان الثدي ثلاثي السلبية (TNBC)، ويعتبر هذا النوع الأكثر شراسة. وتختلف خيارات العلاج حسب نوع السرطان ومرحلة التشخيص، وتشمل خيارات العلاج المعتادة الجراحة والعلاج الإشعاعي والعلاج الموجه والعلاج الكيميائي.
في السنوات الأخيرة، أحدث العلاج المناعي ثورة في علاج السرطان، كما تمت الموافقة عليه (بالاشتراك مع العلاج الكيميائي) لعلاج سرطان الثدي، بما في ذلك سرطانالثدي (TNBC). يتفاقم السرطان بسبب قدرته على الهروب من اكتشاف الجهاز المناعي له، وبالتالي فإن الأساس المنطقي وراء العلاج المناعي هو تحفيز الجهاز المناعي للتعرف على الخلايا السرطانية واستهدافها والقضاء عليها بأقل تأثير على الخلايا السليمة. وهناك عدة طرق للعلاج المناعي، بما في ذلك استهداف مجموعة من البروتينات المعروفة باسم نقاط التفتيش المناعية، والتي تتحكم عادةً في استجابة الجهاز المناعي لخلايا الجسم نفسه. وقد وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية مؤخرًا على استهداف نقاط التفتيش المناعية باستخدام مثبطات، بالتزامن مع العلاج الكيميائي، لعلاج مرضى سرطان(TNBC) وسرطان الثدي الذي يظهر نتيجة إيجابية لمستقبلات (HER2). وعلى الرغم من محدودية أهلية هذا النهج العلاجي، إلا أنه كشف عن نتائج واعدة تمنح الأمل للمرضى الذين ليس لديهم خيارات علاجية أخرى.
لقاح السرطان
لقاحات السرطان هي شكلٌ آخر من أشكال العلاج المناعي. ويمكن التعرف على الخلايا السرطانية إما من خلال إظهارها علامات فريدة أو علامات ناتجة عن طفرات (المستضدات الجديدة) أو بروتينات طبيعية تُنتجها الخلايا السرطانية بمستويات أعلى بكثير مقارنة بالخلايا السليمة. ويهدف مفهوم لقاح السرطان إلى استغلال هذه الاختلافات لتحفيز وتوجيه جهاز المناعة ضد علامات محددة في الخلايا السرطانية للقضاء عليها، فمن الناحية النظرية، يسمح استهداف العلامات الفريدة للسرطان، مثل المستضدات الجديدة، بالقضاء على الخلايا السرطانية بدقة مع تأثير ضئيل أو معدوم على الخلايا السليمة.
تختلف اللقاحات حسب مكوناتها، فمنها ما يحتوي على الأحماض النووية (RNA أو DNA)، أو الكربوهيدرات، أو الخلايا الكاملة، أو الببتيدات (وهي أجزاء صغيرة من البروتين). وقد شهدت تكنولوجيا اللقاحات تطورًا ملحوظًا خلال العقدين الأخيرين، وعلى الرغم من الاختلافات في التركيب والتوصيل والتصميم، إلا أن جميع اللقاحات تعمل من خلال إعطاء تعليمات للجهاز المناعي لتحفيز استجابة معينة ضد هدف محدد.
في السنوات الأخيرة، حققت لقاحات سرطان الثدي تقدمًا ملحوظًا بعد مرحلة التطوير، ويجري اختبارها في التجارب السريرية على المرضى. وأحد أكثر اللقاحات التي خضعت للدراسة هو لقاح (NeuVax™) ضد (75 E)، وهو جزيء صغير يثير استجابة مناعية ضد بروتين (HER2) لدى المرضى الذين يعانون من أورام تظهر مستويات عالية من هذا البروتين (مجموعة فرعية من سرطان الثدي). في المرحلة الأولى والثانية من التجارب السريرية، أظهر اللقاح قدرة واعدة على التحمل والاستجابة لدى المرضى رغم الاستجابات المحدودة التي لوحظت خلال المرحلة الثالثة. وحاليًا تُجرى دراسات لتقييم ما إذا كان لقاح (NeuVax) يمكن أن يوفر ميزة رفع متوسط عمر المرضى وتقليل فرص عودة المرض.
وبالمثل، هناك تجارب سريرية جارية لاختبار لقاحات سرطانالثدي ثلاثي السلبية(TNBC)، على أمل تطوير علاجات فعالة لعلاج هذا النوع الشرس. ومن الأمثلة التي تعِد بنتائج إيجابية لقاح ضد "ألفا-لاكتالبومين"، وهو بروتين يتم إفرازه بمستويات عالية في 70% من حالات سرطان (TNBC). ويعتبر "ألفا-لاكتالبومين" بروتينًا غير نشط، مما يعني أنه لا يوجد عادةً إلا في مراحل وأنسجة معينة (في هذه الحالة، في الثدي خلال أواخر فترة الحمل والرضاعة) ولا يوجد في الخلايا السليمة. ويمكن أن يؤدي تحفيز الاستجابة المناعية ضد هذا البروتين إلى استهداف الخلايا السرطانية حصرًا مع تجنب الخلايا السليمة. وتشير التقارير الصحفية الأخيرة إلى أن العديد من التجارب السريرية في مراحلها المبكرة جارية حاليًا في "كليفلاند كلينيك" في الولايات المتحدة، وتشمل مجموعتين: مرضى سرطان (TNBC) والمعرضين لخطر تكرار الإصابة، والأفراد غير المصابين بالسرطان الذين لديهم خطر وراثي للإصابة بسرطان (TNBC). وسيحدد تطعيم المجموعة الثانية ما إذا كان اللقاح يمكن أن يمنع أيضًا تطور هذا المرض.
وفي الوقت نفسه، حققت تقنيات مثل لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA) تقدمًا كبيرًا، حيث تعطي هذه اللقاحات تعليمات للخلايا لإنتاج بروتين أو ببتيد لتوليد استجابة مناعية فعالة ضد هذا البروتين أو الببتيد، وتوفر هذه التقنية العديد من المزايا، مثل إمكانية إنتاج كميات كبيرة بسرعة والقدرة على توصيل المعلومات لأهداف متعددة. وهناك طريقتان لنقل لقاحات (mRNA) لمرضى سرطان الثدي: الأولى هي وضع الحمض النووي (mRNA) في نوع من الخلايا المناعية يُعرف بالخلايا المتغصنة وإعادة حقنها في المريض، والثانية هي استخدام لقاحات الحمض النووي (mRNA) المعتمدة على الجزيئات النانوية والتي يتم حقنها مباشرة في المرضى. وقد تم تطوير العديد من لقاحات (mRNA) التي تستهدف سرطان الثدي، وقد أكمل بعضها التجارب السريرية في مراحلها المبكرة، في حين ما زال البعض الآخر في طور استقطاب المرضى. ومن هذه اللقاحات لقاح (VPR-HER2)، الذي يستهدف (HER2) والذي أظهر قدرة على التحمل ونتائج أولية واعدة لدى مرضى سرطان الثدي.
الآفاق المستقبلية
على الرغم من التقدم الذي تم إحرازه في الجهود العلاجية لمواجهة السرطان، يبقى تكرار الإصابة بسرطان الثدي تحديًا قائمًا، لكن هناك إيمانٌ بأن لقاحات سرطان الثديقد تكون وسيلة فعّالة للعلاج والوقاية من عودة المرض، إذ يُفترض، نظريًا، أن توفر استجابة مناعية طويلة الأمد ضد علامات معينة موجودة في الخلايا السرطانية.
وعلى الرغم من تطوير العديد من لقاحات سرطان الثدي التي تستخدم تقنيات مختلفة والتي أظهرت نتائج واعدة في التجارب السريرية في المراحل المبكرة، إلا أن التجارب السريرية الأوسع نطاقًا في المرحلة الثانية أو الثالثة لم تُظهر مزايا علاجية ملحوظة حتى الآن، وقد يعني ذلك أن تأثير هذه اللقاحات ليس كافيًا ليكون طويل الأمد. وعلى الرغم من التحديات التي تواجه هذا المجال، إلا أن مفهوم توجيه الجهاز المناعي ضد الخلايا السرطانية لا يزال واعدًا. وستساعد المزيد من الاختبارات، إلى جانب الاستمرار في تطوير وتحسين اللقاحات، في إتاحة خيارات علاجية أكثر فعالية وتناسبًا مع الاحتياجات الخاصة لمرضى سرطان الثدي. ويُجرى حاليًا العديد من التجارب السريرية لاختبار كفاءة اللقاحات في القضاء على خلايا سرطان الثدي، أو منع تكرار الإصابة بالسرطان أو ظهور السرطان لدى الأفراد المعرضين لخطر الإصابة به، وستوفر هذه التجارب مزيدًا من المعلومات وفهمًا أعمق لإمكانيات اللقاحات في علاج سرطان الثدي.
إعداد:
الدكتورة مريم المفتاح، عالم بمركز أبحاث الأورام التحويلية في معهد قطر لبحوث الطب الحيوي التابع لجامعة حمد بن خليفة
ريم عبد العاطي الأسد، باحث مساعد بمركز أبحاث الأورام التحويلية في معهد قطر لبحوث الطب الحيوي التابع لجامعة حمد بن خليفة
مراجعة النسخة العربية:
رويدة زياد طه، باحث مشارك أول بمعهد قطر لبحوث الطب الحيوي التابع لجامعة حمد بن خليفة
** الأفكار والآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن مؤلفتيْه ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.