كيف تنهض المجتمعات والأمم وتحقق ريادتها وإشعاعها الحضارية؟ كيف تفقد المجتمعات والأمم نهضتها الحضارية وتدخل في ليل الغثائية والتبعية الحضارية المهينة؟ لماذا فقدت المجتمعات الإسلامية نهضتها الحضارية؟ وما تبعات ذلك؟ وكيف تستعيد هذه المجتمعات نهضتها الحضارية من جديد؟
تلك هي الأسئلة المحورية الحاسمة التي تمحور حولها كتاب "شروط النهضة" المرجعي الهام الذي صدر منذ ما يزيد عن سبعين سنة حيث كان المفكر الكبير مالك بن نبي مهموما بشروط النهضة الحضارية للمجتمعات الإسلامية المعاصرة، وبمخاطر النزعة المادية والامبراطوية في الحضارة الغربية المعاصرة.
وبالرغم من القيمة المعرفية والوظيفية الهامة، لهذا الكتاب المرجعي المتميز، فإن غالب النخب الفكرية والسياسية والاجتماعية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، لم تنتبه إليه، ولم تعره ما يستحقه من اهتمام، بل هناك من حرَّض ضده، وزهَّد الشباب فيه، وحاول التعتيم عليه، وكانت النتيجة هي أن الأمة لم تستفد منه، كما لم تستفد من مقدمة ابن خلدون من قبل.
والغريب هو أن المجتمع الذي ولد فيه هذا المشروع الفكري المهم، وتوجه به صاحبه إليه مباشرة، وهو المجتمع الجزائري، حيث كانت الطبعة الأولى للكتاب تحمل عنوان شروط النهضة الجزائرية. ولكن المجتمع الجزائري لم يستفد من هذا المشروع، بل أصبح صاحبه يخضع لتتبعات ومضايقات أمنية لفترة من الزمن كما تحولت قضيته إلى قضية وطنية! وفضلاً عن هذا، فقد عملت جهات متعددة على محاصرة مالك بن نبي وفكره والتعتيم عليهما، والحيلولة بينهما وبين الأجيال الجديدة، ولكن ثبات هذا المفكر وإصراره على تبليغ أفكاره ومشروعه إلى الأجيال بكل الوسائل التي أتيحت له، أدى إلى فشل مخططاتهم وجهودهم.
إن مشروع مالك بن نبي تعرض بدوره للتهميش والإهمال مثلما وقع لمشروع ابن خلدون من قبل، حيث هيمنت عليه الثقافة التجزيئية والتلقينية والخرافية، ولم تستفد منه الأمة في تصحيح وتجديد وبناء نهضتها الحضارية على أسس صحيحة ومتينة، لحد الآن، بالرغم من أهميته الكبيرة على المستويين المعرفي والمنهجي.
ولو قدِّر لمشروع المقدمة ومنهجها المعرفي، أن يُعرَف، ويُعمَّم الوعي به، ويُستكمل ويُعمَّق التأسيس له معرفيًا ومنهجيًا وثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا، لتحول مسار النهضة الحضارية الإسلامية تحولاً جذريًا، ولامتد تألق هذا المسار أمدًا طويلاً في التاريخ الإنساني، ولاستفادت الأمة والإنسانية من بركاته كثيرًا.
ولا شك أن الأمة الإسلامية خاصة والإنسانية عامة، قد خسرتا كثيرًا من جراء توقف المشروع الفكري والمنهجي السنني المتوازن، الذي أطلقته مقدمة ابن خلدون، وحاولت شق طريق له في المعرفة والثقافة الإسلامية والإنسانية.
فما تعيشه الأمة والإنسانية من ازدواجية تنافرية منهكة، بين المادية والروحية، والدينية والدنيوية، والفردية والجماعية، والعلمانية والإسلامية، والأخلاقية واللاأخلاقية، والاستتبداد والحرية، والإنسانية والوحشية، والفطرة والشذوذ يرجع في الأساس إلى الرؤية الكونية التي تقوم عليها المنظومات المعرفية والعقدية والثقافية والاجتماعية والحضارية للأفراد والمجتمعات.
وكثير من هذه الرؤى الكونية، تقوم على معرفة وثقافة لا سننية، أو على معرفة وثقافة سننية جزئية متنافرة، لا يعترف بعضها ببعض، ويهمش بعضها بعضًا، وينافر بعضها بعضًا، وينهك بعضها بعضًا، في الوقت الذي تحتاج فيه الحياة البشرية لكي تتوازن وتتكامل، وتعظُمَ فعاليتها وخيريتها وبركتها الحضارية، إلى معرفة وثقافة سننية شمولية تكاملية متوازنة، تغطي كل جوانب هذه الحياة، وتضمن لها تنمية فكرية ونفسية وروحية وسلوكية واجتماعية وكونية متوازنة، تخلِّصها من الازدواجية والتنافرية والإهتلاكية المنهكة.
فتعثر وتوقف هذا المشروع السنني الذي أطلقته المقدمة، حرم المنظومة المعرفية والثقافية للأمة والإنسانية، من ثقافة سننية شمولية تكاملية متوازنة، توفِّر للإنسان المعطيات المعرفية السننية الشاملة، التي بها يبني منظوره أو رؤيته السننية الكونية الكلية الصحيحة المتوازنة، المطابقة لحقائق الأشياء والفِطر التي هي عليها فعلاً.
وهذه المعطيات السننية المؤثرة في بناء المنظورات والرؤى الكونية الكلية المتوازنة، موزعة على أربع منظومات سننية كونية كلية متكاملة، هي منظومات سنن الله في الآفاق والأنفس والهداية والتأييد، وهو ما ينطلق منه مشروع المقدمة، ويرتكز عليه، ويؤكد عليه، بحكم مرجعيته القرآنية الكونية السننية المتكاملة والمتوازنة، التي تعترف بكل هذه المنظومات السننية الكونية الكلية الأربع، وتعطي لكل واحدة منها حجيتها وسلطتها المرجعية المستقلة، التي لا ينازعها فيها غيرها من المنظومات السننية الكونية الكلية الأخرى، عندما يتعلق الأمر بما وجدت من أجله، ووُضِع تحت سلطتها.
والمعرفة والثقافة المعاصرة إسلامية أم إنسانية عامة، انشطر فيها الوعي بالمنظومات السننية الكونية الكلية الأربع، وتمحور اهتمام كل منظومة مجتمعية منها، حول منظومة أو منظومتين من المنظومات السننية الكونية الأربع على الأكثر، وتمت مخاصمة وإقصاء أو تهميش بقية المنظومات السننية الأخرى، وبُنِيت حياة الإنسان وحركته المعرفية والثقافية والاجتماعية في هذه المجتمعات، على هذه التجزيئية المتنافرة.
وكانت نتيجة ذلك كله، هي المزيد من الازدواجية والتنافرية والإهتلاكية المعرفية والثقافية والنفسية والسلوكية والاجتماعية والحضارية المنهكة.
ومن هنا تأتي الأهمية الكبيرة لمشروع شروط النهضة، الذي يأتي في سياق إعادة الربط بين حلقات التاريخ المعرفي والثقافي والمنهجي للأمة والإنسانية من جديد.
فكتاب شروط النهضة ومشروعه الثقافي، هو امتداد طبيعي لكتاب المقدمة ومشروعه الثقافي، وهما معا يتحركان في اتجاه التأكيد على الرؤية السننية القرآنية المتكاملة لحركة الحياة، والقوانين الكلية التي تحكم صيروراتها الحضارية.
من هنا تأتي أهمية العناية بهذا الكتاب المرجعي، الذي يحيل صاحبه حتمًا على المقدمة، ومنهجها، وعلى كل ما يتحرك في أفق المقدمة من معرفة وثقافة إسلامية وإنسانية عامة، تحقق للإنسان التوازن المعرفي والثقافي المطلوب، الذي يحقق له التكامل والتوازن في شخصيته وأدائه الذاتي والاجتماعي في نهاية المطاف. وهو ما تهدف إليه كل المجتمعات الإنسانية.
وبمناسبة الذكرى السبعين لميلاد هذا المشروع المرجعي المهم، الذي استطاع فيه صاحبه أن يربطه بمشروع ابن خلدون، وأن يستعيد له حيويته، ويوسع دائرة الرؤية فيه ويعمقها، ويرتقي بها من مستوى الدائرة القبلية أو السياسية الضيقة، إلى مستوى الدائرة الحضارية العامة، التي يتحرك في إطار قوانينها ومؤثراتها الحاسمة؛ الفرد والقبيلة والسلطة والدولة والمجتمع والأمة، وتتحدد على ضوء الموقف منها، مصائر المجتمعات البشرية في عالم الشهادة، ومصائر الأفراد في عالم الغيب الأخروي القادم، حري بنا أن ننظر في بنية هذا المشروح ونفكر في سبل تنزيله على واقعنا المعاصر لتحقيق النهوض الحضاري المنشود.