تسلط دار جامعة حمد بن خليفة للنشر الضوء على أعراض مرض التوحد ومعدلات انتشاره، وذلك عبر نشرها العديد من الدراسات ذات الصلة التي قُدمت لمؤتمر مؤسسة قطر السنوي للبحوث، والتي تم جمعها ونشرها إلى جانب مقالات أخرى ضمن موضوع واحد عبر منصة QScience.com القائمة على نهج الوصول الحر، مما يسمح بإجراء المزيد من البحوث المعمَّقة حول المرض.
يُعتبر اضطراب طيف التوحد اضطرابا نمائيا عصبيا يستمر مدى الحياة ويصاحبه خلل في المهارات الاجتماعية والتواصلية، كما يؤدي إلى ظهور أنماط سلوكية مقيدة ومتكررة.
وفي هذا الصدد، يعلِّق الدكتور الوليد الخاجة، وهو محرر أول في دار جامعة حمد بن خليفة للنشر، قائلاً: "إن هذه المجموعة تتضمن العديد من المصادر الجديدة التي يوفرها موقع QScience.com الذي أصبح يمثل مصدراً حيوياً للمعلومات التي يمكن للباحثين والجمهور الوصول إليها بسهولة، وبات منصة معلوماتية لنشر البحوث الخاصة بالعديد من القضايا الراهنة والمسائل ذات الأهمية في عالمنا."
وكانت منظمة الصحة العالمية قد كشفت أن المتوسط العالمي لانتشار التوحد يبلغ تقريباً 62 حالة بين كل 10 آلاف شخص (2014). وقد تناول الباحثان فؤاد الشعبان وإريك فومبون وآخرون (من جامعة حمد بن خليفة وجامعة أوريجون للصحة والعلوم) في دراسة تحت عنوان "استخدام النسخة العربية من استبيانات التواصل الاجتماعي في الفحص المدرسي لاضطراب طيف التوحد في قطر،" معدلات انتشار مرض التوحد بين الأطفال ممن تتراوح أعمارهم بين 5 و12 سنة. وقد أُجريت عدة دراسات تشخيصية للكشف عن درجات اضطراب طيف التوحد لدى الأطفال الذين يلتحقون بالمدارس الابتدائية في قطر. وأظهرت النتائج أن هناك عدداً كبيراً من بين الأطفال الذين خضعوا للفحص لديهم مستويات عالية من اضطرابات طيف التوحد، مما يثبت وجود مرضى التوحد في قطر. وتقدم لنا نتائج هذه الدراسة رؤية معمَّقة يمكن الاستعانة بها في تحسين الرعاية الصحية التي يتطلبها الكشف عن هذا الاضطراب والتعامل معه.
وفي دراسة أخرى بعنوان "علم الأعصاب والتصميم الداخلي: التأثير على التوحد"، استعان محمد شريف عمر (من جامعة فيرجينيا كومنولث في قطر) وأحمد السطوحي (طبيب أعصاب في مستشفى حمد العام) بتصميم تجريبي من أجل تحقيق هدفين: أولاً، مقارنة السلوكيات والاستجابات العصبية لدى الأشخاص المصابين بالتوحد عندما يتم تعريضهم لثلاثة أنواع من أضواء الفلورسنت، وثانياً، استكشاف تأثير درجات الحرارة اللونية المختلفة على مناطق الدماغ ذات النشاط العصبي المحدود لدى الأشخاص من ذوي اضطرابات التوحد.
وتؤكد النتائج كيف تؤدي أضواء الفلورسنت بالإضافة إلى متغيرات أخرى في البيئة الداخلية (مثل الضجيج ودرجة الحرارة المحيطة ونوعية الهواء) دوراً حاسما في تعزيز الأنشطة اليومية لدى الأشخاص ذوي الأدمغة الطبيعية، ولكن هذا ليس هو الحال لدى من لديهم وظائف دماغية مختلفة. فالأشخاص الذين يعانون التوحد يكونون في الواقع أكثر عرضة للتشتت الذهني حينما يتعرضون لأضواء الفلورسنت التي تحدث لديهم نوعاً من الإثارة وفرط النشاط والإجهاد وتضعف المهارات الإدراكية- مما يؤدي إلى إضعاف الحالة الصحية والأداء لديهم.
وفي هذه التجربة خضعت مجموعة مختارة من الأشخاص المصابين بالتوحد لسلسلة من عمليات الأشعة على الدماغ في مركز حمد الطبي، وطُلب منهم تقييم بعض الصور. وكان هؤلاء المشاركون يقيمون في قطر وجرى اختيارهم من خلال التعاون مع مركز الشفلح للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة. ونظراً لأن هذه الدراسة تخص قطر، فهي تسعى إلى وضع أساس من الأدلة السلوكية العصبية التي تعتبر ذات أهمية حاسمة في مواصلة تطوير المؤسسات التي تُعنى بذوي الاحتياجات الخاصة في قطر.
وفي دراسة أخرى أجريت في عام 2016، والتي جاءت بعنوان " قنوات الأطفال كسبب رئيسي في طيف التوحد ولماذا يعتبر ترك الأطفال الأقل من سنتين أمام شاشات التلفزيون جريمة؟" أكد محمد حسن زكي أهمية التعلم في مرحلة الطفولة المبكرة من خلال التكرار والتفاعل. وأظهرت الدراسة أن "التكرار هو أساس عملية التعلم"، وأن الشخص يحتفظ بأكبر قدر من المعلومات حينما يتم تكرارها أمامه. أما الأطفال الذين يشاهدون التلفزيون فهم يتعرضون تلقائيا إلى تكرار الأصوات والأشكال والألوان والأحجام. وهذا التعرض بدوره هو الذي يضع الأساس لكيفية تطور الحواس لدى الطفل، وتحديدا حاستي الإبصار والسمع.
ولذلك، حينما يشاهد الطفل التلفزيون في السنوات الأولى له، تُنقش في ذاكرته ألوان وأحجام وأشكال وسرعة الأشياء التي يراها على التلفزيون. ويصبح الطفل معتاداً على عالم ثنائي الأبعاد، مما يحرمه من القدرة على التواصل البصري. وفيما يتعلق بالسمع، فإن الطفل الذي يشاهد التلفزيون لأوقات طويلة لن يستقبل إلا أحجاماً ومستويات وأصوات واتجاهات محدودة. كما أن التكرار المعهود في قنوات الأطفال للأغاني والأصوات سوف يؤدي لا شعوريا إلى جعل الأطفال يحتفظون بهذه الأصوات في ذاكرتهم السمعية، مما يُقلص المساحة الخاصة بتذكر الأصوات الأخرى، بما فيها أصوات الوالدين. كما يؤدي إلى إضعاف القدرة على الكلام، لأن النقص المحتوم في التفاعل البشري من شأنه أن يضعف مهارات اكتساب اللغة لدى الأطفال. وبالرغم من أن التكرار هو أساس عملية التعلم، فإن وجود التلفزيون باعتباره المصدر الرئيسي للتكرار لدى الطفل، سوف يقلص القدرة على استيعاب أي شيء آخر. وهو ما يعني أن التكرار الذي يتم عبر التلفزيون يؤدي إلى نتائج عكسية وضارة في الأساس، وذلك لكونه ليس هو ذلك النوع من التكرار الذي يعزز عملية التعلم.
وخلصت النتائج إلى أنه من بين أكثر من 300 طفل يعانون التوحد في عدة بلدان عربية، فإن 90% من هؤلاء الأطفال قد تعرضوا لإهمال غير مقصود تمثل في تركهم أمام شاشات التلفزيون خلال السنة الأولى أو الثانية من أعمارهم. ومن بين أسباب هذا الإهمال انشغال الآباء في أعمالهما أو جهلهما بالآثار السلبية المترتبة على مشاهدة الطفل للتلفزيون. وقد ظهرت أعراض طيف التوحد لدى الأطفال الذين تعرضوا لمثل هذا الإهمال، وهي أعراض تشمل انعدام القدرة على التواصل البصري بين هؤلاء الأطفال، ونقص مدة الانتباه لديهم، والتأخر في نمو العمر العقلي ، وتعرضهم لاضطرابات في النوم والأكل، وميلهم للعزلة مقارنة بالأطفال الآخرين، وظهور خلل في بعض الحواس الأخرى لديهم مثل (الشم واللمس والتذوق والسمع). وهناك عاملان رئيسيان تتحدّد هذه الأعراض بناء عليهما وهما مقدار ما يشاهده الطفل عبر التلفزيون والسن الذي بدأ فيه مشاهدة التلفزيون.
وبحسب النتائج فإن مشاهدة التلفزيون ترتبط فعلاً بأعراض التوحد، ولكن هذا لا يعني أن التلفزيون يسبب مباشرة طيف التوحد، كما أن أعراض التوحد ليست مرادفة لاضطراب طيف التوحد. ومع ذلك، يوصي الباحثون القنوات التي تقوم بتكرار المحتوى والأغاني كثيرا بأن تضع "تحذيراً" على القناة لتقليل عدد مشاهديها ممن هم دون السنتين. بالإضافة إلى ذلك، تقترح الدراسة بألا يشاهد الأطفال ممن هم دون السنتين التلفزيون سوى مرة واحدة وذلك من أجل تعزيز وتحفيز التفاعل مع العالم الحقيقي والمادي، وهو ما سيؤدي بدوره إلى التقليل لاحقا من أعراض التوحد.