الدكتور مايكل بينيديك, وكيل جامعة حمد بن خليفة
نشهد حاليًا موسم تخرُّج طلاب من كافة الكلّيات والجامعات في جميع أنحاء العالم، والحال أنّ الجميع يحرصون على إكمال دراستهم والحصول على شهادتهم. وفي الوقت الذي يخوض فيه الآلاف من الطلاب في قطر، والملايين في جميع أنحاء العالم، غمار هذه المسيرة الأكاديمية، فإن مجموعة منهم فقط ستتمكّن من الحصول على درجة ما بعد البكالوريا أو درجة الدراسات العليا. ولكن ماهي دلالات شهادات الدراسات العليا هذه، ولماذا يحظى الخريجون الحاصلون على درجة الماجستير أو الدكتوراه بأهميّة كبيرة ؟
ومن المتعارف عليه أن الحصول على الشهادة الجامعية يُعتبر انجازًا هامًّا، ولطالما يُشاع أن خريجي الجامعات ليسوا مستعدين لدخول سوق العمل، إلا أن الهدف من ارتياد الجامعة لا يقتصر فقط على اقتناص الفرص للتوظيف، بل يتجاوز الأمر أكثر من ذلك، حيث إن الجامعة والكلّية تحرص على تقوية مهارات الطلاب اليافعين المتّسمين بالذكاء، لتمكينهم بوسائل التواصل والتفكير ومعالجة المعلومات، وأن يكونوا ملمّين بمجالات دراساتهم، والأهمّ من ذلك أن يكونوا مؤهلين تمامًا لمجالهم الوظيفي الذي يسعون إليه.
وتختلف تخصصات الدراسات العليا عن بعضها البعض، وبالتالي يُنظر الى كل تخصص على أنه مُتعمق في مجال دراسة معيّن، وبالرغم من قيام جامعة حمد بن خليفة بتوفير دورات تدريبية متطوّرة كجزء أساسيٍّ من الدراسات العليا، إلا أن خريجينا تميّزوا ليس فقط في اكتساب المعرفة وإنّما أيضًا في تطويرها ضمن مجال دراساتهم، سواء كان ذلك من خلال البحث أو غيرها من الأنشطة العلمية.
وفي الواقع، هذا ما يميّز الجامعة البحثية عن غيرها من الجامعات، فتعليم جيلٍ جديدٍ من الطلاب يُعدّ أمرًا أساسيًا لأي مؤسسة تعليم عالي، إلاّ أنّ الجامعات البحثية الحديثة تضيف الى هذا الهدف، أهدافًا أخرى لعل أهمها هو التركيز على ابتكار معرفة جديدة من خلال أنشطة بحثيّة ومبادرات من قبل أعضاء هيئة التدريس، وهذا الأمر يشمل جميع التخصصات، مثل الطب أو الهندسة أو علوم الحاسوب، حيث نحرص على دراسة وفهم أعمق لثقافاتنا وأدبنا وتاريخنا، ناهيك عن فهم بيئتنا وعالمنا وسلوكياتنا البشرية، فمن خلال إنجاز البحوث في كلّ هذه المجالات، ننجح في تعزيز آليات المعرفة والعلوم.
ولاشك أن المقاربة بين البحوث وتعليم طلابنا هي التي تميّز الجامعات البحثية عن غيرها من المؤسّسات العلمية، حيث يحرص طلّاب الدراسات العليا على التعاون والعمل مع أعضاء هيئة التدريس لتحقيق اكتشافات جديدة أو بلورة تحليل جديد لمجال دراستهم، وهذا الدور الذي يؤدّونه في تأسيس آليات جديدة للتعلّم، يُعدّ ركيزة أساسيّة في شهادات دراساتهم العليا، ويُسلّط الضوء على قيمة الجامعات البحثية ومساهماتها في الارقاء بالمجتمعات والدول والعالم ككل.
وتعتبر الجامعات البحثية مركزًا هامًّا للاكتشاف والابتكار، وغالبًا ما نحدد ذلك من خلال عدد براءات الاختراع أو الشركات الناشئة التي يتم تأسيسها، إلّا أن هذا الأمر يطغى الى حد كبير على قيمة مساهماتها العديدة الأخرى، وفي عصرنا هذا تُعتبر البحوث المفتاح الرئيسي لتعزيز وسائل التكنولوجيا الحديثة، حيث ترتكز الشركات الناشئة اليوم على البنية التحتية للمعارف التي تشكلت على مدار السنوات والعقود السابقة، وستكون البحوث التي يتمّ إنجازها اليوم في الجامعات، ركيزةً للجيل القادم لاكتساب المعرفة والتصدي للحلول التكنولوجية الحديثة، وستتيح لهم فرصًا جيّدةً لريادة الأعمال في مختلف التخصصات، حيث أنّ ما يتمّ تحقيقه في الجامعات البحثية من تقدّمٍ وتطوّرٍ حاليًّا ومستقبلًا، سيؤدّي دورًا قيّمًا في تطوير المفاهيم الاقتصاديّة، وهذا ما يجعل الجامعات البحثية المرموقة عالميًا محطّ اهتمام الطلاب والكليات والمبتكرين على مستوى العالم، وتجذبهم إلى حرمها الجامعي ومرافقها البحثية، وفي نفس الوقت تتنافس علميًا مع نظيرتها من الجامعات الأخرى لانتزاع مكانتها المرموقة في الساحة الدولية، وليس فقط على المستوى المحلي أو الإقليمي.
ومع ذلك، فإن أهمية البحوث تتخذ أبعادًا أكثر من مجرّد اكتشافات فنيّة فقط، فإذا فشلنا في فهم السلوكيات البشرية ولم نحقّق احاطة شاملة بشكل أفضل عن عالمنا وسكانه ونظمه البيئية، وإذا لم نستوعب تداعيات قوانيننا أو سياساتنا العامة، سنواجه مستقبلًا غامضًا. وفي هذا السياق نلاحظ ان الجامعات البحثية الحديثة تؤثّر بشكل عميق في مجتمعنا وثقافتنا من خلال بلورة الرأي العام والتأثير على السياسات، وتعزيز التفكير النقدي والإبداع، حيث إنّ الجامعات البحثية تتيح لروّادها منصة جيّدة لاستكشاف هذه المفاهيم والنظريات الجديدة التي تساعدنا في استيعاب ما يحدث في العالم.
وبالإضافة إلى التدريس وإنجاز البحوث، تؤدي الجامعات دورًا حيويًّا في مجتمعاتها المحلية، وتقدم مجموعة من الخدمات وبرامج التوعية التي تفيد السكان والشركات، فعلى سبيل المثال، من خلال مبنى ذو المنارتين، يُقدم أعضاء هيئة التدريس والطلاب فرصًا قيّمة للمجتمع لاكتساب المعرفة في عدّة مجالات، ففي جميع أنحاء جامعة حمد بن خليفة، يحظى الطلاّب ببرامج أكاديمية من شأنها تطوير الصحة العامة ووسائل الحوكمة السليمة، والتعليم فضلًا عن التعاون مع الحكومة والمؤسسات غير الربحية لتسهيل سير عملها بشكل أفضل، والتي تشمل تلك التي سبق وأن تعاملنا معها، وذلك لنشر الوعي من خلال هذه الحملات بما في ذلك سرطان الثدي والسكري والصحة العقلية.
كما أن البحوث في جامعة حمد بن خليفة التي تم إنجازها من قبل أعضاء هيئة التدريس وطلّابنا أدّت دورًا فعالاً في دولة قطر خلال جائحة كوفيد 19، ولا تزال الدراسات جارية لاستخلاص الدروس التي يجب الاقتداء بها جرّاء ما عايشناه خلال تلك الفترة العصيبة .
وما تحقّقه جامعة حمد بن خليفة من مبادرات مجتمعيّة تذهب الى أبعد من حدود دولة قطر، وبالتالي نحن نفخر بالدور الحيويّ الذي يؤديه أعضاء هيئة التدريس والطلاب في جعل منافسات كأس العالم فيفا قطر 2022 واحدة من أفضل الأحداث الرياضية العالمية ملائمة للمشجعين من ذوي الاحتياجات الخاصة. وعلاوة على ذلك، فقد نظمنا في السنوات الأخيرة رحلات تعليمية لطلابنا إلى الأردن وبنغلاديش للحصول على فهم أعمق للظروف التي يعاني منها اللاجئون والمشردون بسبب الصراعات والنزاعات. وفي كلّ المبادرات والفعاليات، اقترن مبدأ اكتساب المعرفة بمفهوم المساعدات الإنسانية والعمل التطوّعي، وما زلنا نلتزم بالعودة الى مواردنا العلمية لوضع بصمة إيجابية في المجتمعات على الصعيدين المحلي والعالمي.
وبالعودة إلى موضوع أسباب أهميّة وقيمة الطلاب الذين أكملوا شهادة الدراسات العليا بنجاح وتفوّق، ففضلًا عن أنهم خبراء في مجالهم وتعمّقوا في دراستها طيلة سنتين أو أكثر، فإنهم ربما يؤسّسون لرؤى جديدةٍ تستند إلى أحدث المعارف والعلوم في مجال دراساتهم، وبالتالي تعتبر شهادة الدراسات العليا مرآةً لتطوير مهارات مبتكرة لمعالجة قضايا متعددة.
ومن أجل إنجاز بحوثهم، يكتسب طلاب الدراسات العليا مهارات في انشاء و/أو تحليل البيانات المعقدة وتحديد الأساليب التي تؤدي إلى فكرة أو اكتشافٍ جديدٍ، لذا فإن ارتياد كلّيّة ما لا يُعتبر بالأمر الهيّن، وبالتالي فإن الطالب الذي نجح في الحصول على شهادة الدراسات العليا، فإنه يتحلى بمواصفات وأخلاقيّات عمل قوية، حيث تمكن معظم طلابنا في جامعة حمد بن خليفة من الحصول على شهادتهم وهم يزاولون العمل بدوام كاملٍ في جميع أنحاء دولة قطر، وهذا يعود الى اعتيادهم على العمل لساعات طويلة، والتوفيق بين إدارة المشاريع ومواجهة التحدّيات التنافسية خلال دراستهم، ولهذا السبب سيكونون قادة المستقبل، وليس مجرد مزاولين لوظيفة ما.
ولا يفوتني في هذا المقام التذكير بما قاله السناتور الأمريكي دانيال باتريك موينيهان في أحد اللقاءات: «إذا كنت تريد بناء مدينة عظيمة، عليك أن تنشأ جامعة عظيمة وانتظر 200 عامٍ»، فبالرغم من تغير الإطار الزمني، إلا أن للجامعات الناشئة أثر ملحوظ على مجتمعاتها، ولا يزال هذا المبدأ قائمًا حتى اليوم، حيث إنّ جميع المدن العظيمة (وليس المدن الكبيرة فقط) تحتضن جامعات مرموقة، ولحسن الحظ تصطفّ الدوحة الى جانب هذه المدن العظيمة.