الدكتور روبرتو دي بيترو
في ظل إطلاق عشرات الآلاف من الأقمار الصناعية إلى الفضاء خلال السنوات القليلة المقبلة، بدأت ساحة المنافسة في مجال الفضاء التي شهدت عددًا قليلاً من الأطراف الفاعلة وبضع مئات من الأقمار الصناعية منذ الخمسينيات تتغير بشكل كبير. فمن المتوقع أن تفتح الأطراف الفاعلة الجديدة أقمارها الصناعية للاستخدام من قبل الغير. وسوف يساهم هذا الأمر في إطلاق العنان لفرص عمل جديدة، وهو ما يتيح توفير خدمات جديدة تمامًا، فضلاً عن تحسين الخدمات الحالية. ومن ناحية أخرى، يمكن أن تشكل هذه الاستخدامات، وكذلك الأطراف الفاعلة الحكومية التي سيكون لها بلا شك اليد العليا في إدارة هذه الاستخدامات، تهديدًا جديدًا لخصوصية وأمن الأفراد والشركات والدول.
ووفقًا للمعايير الحديثة، فإن تكنولوجيا الأقمار الصناعية ليست جديدة، حيث أُطلق أول قمر صناعي إلى الفضاء في عام 1957 مع عدم إمكانية التحكم فيه من الأرض، ولم يكن أكثر من مجرد قمر فضاء لاسلكي يبث إشارته من الفضاء. وكانت الاستخدامات المتوقعة محدودة، حيث كانت لا تتعدى ببساطة تسريع الاتصالات السلكية واللاسلكية إذ أن الكابلات البحرية كانت توفر بالفعل اتصالات عابرة القارات، وربما خدمة البث التلفزيوني. وبينما كانت الأقمار الصناعية تمثل بالفعل إنجازًا من الخيال العلمي؛ لم يكن البشر قد وصلوا من قبل إلى المدارات الفضائية، وجاءت الأقمار الصناعية وقتها باستخدامات محدودة وغير جوهرية لعامة الناس، رغم أن استخداماتها العسكرية، مثل المراقبة المتقدمة واكتشاف عملية إطلاق الصواريخ، كانت بالفعل واضحة تمامًا.
وبعد مرور أقل من 65 عامًا على هذه الواقعة، باتت الأقمار الصناعية تشكل حجر الزاوية في أسلوب حياتنا. فعندما تستخدم تقنية الملاحة المساعدة، فأنت تستخدم خدمة تقدمها الأقمار الصناعية. وعندما تقرر الذهاب إلى الشاطئ، فذلك يحدث لأن الأقمار الصناعية قد وفرت لك ضمانًا بشأن حالة الطقس خلال اليومين أو الثلاثة أيام المقبلة. وتعتمد الطائرات والسفن على الأقمار الصناعية في اتصالاتها، وينطبق الشيء نفسه عندما يتواجد المرء في الصحراء على بعد مئات الكيلومترات من أي منطقة حضرية مأهولة بالسكان. وفي الشؤون العسكرية، تعتبر الأقمار الصناعية حجر الزاوية في الحروب الحديثة، حيث توفر قدرات الاستشعار والاتصال في كل السيناريوهات والظروف الجغرافية الممكنة، وعلى الرغم من ذلك، لم يتحقق الأفضل بعد.
وقد مهدت التطورات التي حدثت في قطاع التكنولوجيا، لا سيَّما في مجالي الحوسبة والتصغير، وفي التكنولوجيا الفائقة عمومًا، بما في ذلك القدرات اللاسلكية، ونقل البيانات المستند إلى الرياضيات، وفي علوم المواد، الطريق لظهور أنواع من الأقمار الصناعية لم نشهدها من قبل، مثل القمر الصناعي المكعب، وهو قمر صناعي مربع الشكل قطر جوانبه 10 سنتيمترات فقط. وعلاوة على ذلك، ساهمت التكلفة المنخفضة نسبيًا لصناعة الأقمار الصناعية، وسهولة إدارتها، وزيادة توافر الناقلات اللازمة لوضع الأقمار الصناعية في المدارات، لا سيَّما الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض على ارتفاعات منخفضة تتراوح ما بين 160 و1000 كيلومتر من الأرض، في فتح الأبواب لسباق فضائي جديد مدفوعًا بعددٍ لا يحصى من الاستخدامات الممكنة. والدليل الصارخ على هذا السباق هو شركة سبيس إكس التي يملكها إيلون ماسك والتي تنشر شبكة ستارلنك المكونة من آلاف الأقمار الصناعية بعد موافقة إدارة الطيران الفيدرالية على تصنيع 42,000 قمر صناعي تابع للشركة. ويمكن أيضًا النظر بعين الاعتبار إلى شركة كويبر سيستمز إل إل سي، التابعة لشركة أمازون، التي تخطط لنشر أكثر من 3,200 قمر صناعي في الفضاء. وبالإضافة إلى هذين العملاقين، يتعين على المرء أن يضيف مئات الشركات الناشئة التي تخطط لنشر أقمارها الصناعية أو التي لديها بالفعل أقمارًا صناعيةً قيد التجربة في المدارات الفضائية.
ويتضح الاهتمام بهذا المجال في منطقة الخليج، حيث أطلقت دولة الإمارات العربية المتحدة مؤخرًا القمر الصناعي خليفة سات لرصد الأرض وتصويرها، ولديها أيضًا مركز فضاء أنشأته حكومة دبي للنهوض بعلوم الفضاء والتكنولوجيا المتقدمة. وتعتزم المملكة العربية السعودية إطلاق قمرها الصناعي السادس عشر إلى الفضاء (سعودي جيو سات1)، بمهمة محددة تتمثل في "توفير اتصالات أقمار صناعية آمنة على النطاق Ka لحكومة المملكة العربية السعودية.". وتعتمد دولة قطر على الشركة القطرية للأقمار الصناعية "سهيل سات"، التي تشغل الأقمار الصناعية لأغراض الاتصالات من مقرها بمدينة الدوحة. وكانت شركة سهيل سات قد تأسست في عام 2010 بهدف إدارة وتطوير الوجود القطري في الفضاء.
ولكن ما هو الأساس المنطقي وراء هذا السباق الفضائي الجديد؟ إن الأمر يتعلق إلى حد كبير بفرص العمل والتشغيل التي توفرها الأقمار الصناعية، ويمكننا تسليط الضوء على عدد قليل منها في ما يلي:
الأقمار الصناعية لإنترنت الأشياء: هناك تصور بإمكانية نشر نموذج إنترنت الأشياء في أكثر من 50 مليار جهاز حاسوبي مثبت حديثًا، يتطلب كل منها اتصالاً بالإنترنت لتحقيق القيمة الكاملة المتوقعة. وفي العديد من الأماكن، تكون البنية التحتية المواتية للإنترنت بعيدة المنال مثلما هو الحال في المنصات الساحلية والبيئات القاسية والمواقع الريفية. وهذا هو المكان الذي يمكن أن تؤدي فيه الأقمار الصناعية دورًا حيويًا، حيث يمكن أن تعمل كبوابة للإنترنت لهذه الأجهزة البسيطة.
الزراعة الدقيقة: من الممكن بالفعل التحقق من صحة المحاصيل، ووقت الحصاد، ورصد أول مجموعة من الأمراض، وتحسين خدمات الري عبر الأقمار الصناعية. ويساهم هذا الأمر في إمكانية توفير التكاليف وزيادة الإيرادات مع المساعدة في تحقيق الاستدامة وأهداف التنمية الأخرى.
أمن الدولة: للأقمار الصناعية تاريخ طويل في دعم أجهزة الاستخبارات بنجاح، مثل التعرف على الصور على الحدود، أو توفير وسيلة للاتصالات الآمنة المستقلة عن البنية التحتية الأرضية. وستساهم الاستخدامات الجديدة للأقمار الصناعية في دعم اقتصاديات الدول، على سبيل المثال عبر التحقق من الصيد غير المشروع، والتعدين غير القانوني، أو للتحكم في الوصول إلى مناطق المصالح الاقتصادية البحرية الحصرية، حيث يصعب السيطرة على هذه المناطق باستخدام دوريات عادية، بسبب المسافات والمناطق الخاضعة لولاية الدول، ولكن هذا الأمر ممكن تمامًا إذا تم ذلك عبر الأقمار الصناعية.
فرص الأعمال الاستهلاكية: يمكن للقطاع الخاص تصور تحقيق استخدامات لم يكن من الممكن تصورها من قبل. فعلى سبيل المثال، تقوم شركة يابانية ناشئة بوضع أقمار صناعية في المدارات الفضائية يمكنها أن تطلق وابلاً من النيازك الصغيرة خلال الفعاليات الكبيرى، على غرار الألعاب النارية، ولكن بالاعتماد على المنشطات. ويمكن أن تتطور العديد من فرص الأعمال غير المتوقعة عند نشر أو إنشاء مجموعات من الأقمار الصناعية بغرض التأجير.
تعزيز المنظومة البحثية: تتطلب تكنولوجيا الأقمار الصناعية بطبيعتها معدلاً مستدامًا من الابتكار التكنولوجي. وفي دولة قطر، تعتبر جامعة حمد بن خليفة المركز العلمي المتخصص والمرجعي في هذا المجال، حيث يتم تطوير تكنولوجيا الاتصالات والحوسبة الرائدة، إلى جانب تقييم وتهديدات الأمان والخصوصية ذات الصلة، لا سيَّما عند التعامل مع الأصول عالية الجودة مثل الأقمار الصناعية، واتخاذ التدابير الوقائية واختبارها ونشرها.
ويبدو سباق الفضاء الجديد، أو بالأحرى، السباق لامتلاك وتشغيل كوكبة من الأقمار الصناعية، مشروعًا واعدًا من كافة أبعاده. فمن منظور اقتصادي، تبشر خدمات الأقمار الصناعية بتوفير فرص تجارية جديدة. ومن منظور السلامة، تمثل هذه الخدمات حجر الزاوية لعمليات النقل الأكثر أمانًا والمساعدة في التنقل. وفيما يتعلق بشؤون الدفاع ، ستؤدي الأقمار الصناعية الدور المهيمن الذي قام به الطيران منذ الحرب العالمية الثانية. وأخيرًا، يعد قطاع التكنولوجيا الفائقة من القطاعات الأساسية لتطوير المزيد من التقنيات التي لديها القدرة على تسريع معدل الابتكار وإثراء العديد من المجالات مثل الاتصالات والأمن. وبشكل عام، يمكن لثورة الأقمار الصناعية أن تساعد دولة مثل قطر على التقدم بقوة في طريقها للتحول إلى الاقتصاد القائم على المعرفة، وتعزيز وجود الدولة في قطاع الخدمات والمنتجات ذات القيمة المضافة العالية، وهو هدف تتقدم البلاد بثبات نحو تحقيقه.
يشغل الدكتور روبرتو دي بيترو، الحائز على جائزة العالم المتميز من رابطة مكائن الحوسبة، منصب أستاذ متفرغ في مجال الأمن السيبراني بكلية العلوم والهندسة في جامعة حمد بن خليفة.
ملاحظة:
هذا المقال مقدَّم من إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابةً عن الكاتب. والآراء الواردة في هذا المقال تعكس وجهة نظر الكاتب، ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.