الدكتورة جيني لولر
عندما أفكر في شكل عالم ما بعد الكوارث، تتبادر إلى الذهن صورٌ من أفلام شهيرة مثل "ماكس المجنون"، وأتصور عالمًا نتصارع فيه مع بعضنا البعض ومع عناصر الطبيعة للحصول على الماء والغذاء والمأوى. وللأسف، يمثل هذا الأمر حقيقةً واقعةً بالفعل للناس في بعض أنحاء كوكبنا. وتعاني المناطق التي تفتقر للإدارة الجيدة، حيث ينتشر الفقر وتقل الاستثمارات في البنية التحتية، بالفعل من آثار تغير المناخ والجفاف والمجاعة. وتبرز البلدان النامية باعتبارها أول الدول وأكثرها تضررًا من هذه الآثار، حيث يرتبط الازدهار الاقتصادي بوفرة الموارد الطبيعية، ولكن لا أحد منا بمنأى عن هذا الضرر. ويعتمد بقاءنا كجنس بشري اعتمادًا كليًا على كوكب الأرض.
إنقاذ الكوكب
وكانت منظمة الأمم المتحدة قد حذرت في عام 2019 من أنه لم يعد أمامنا سوى عقدٍ واحدٍ من الزمان لإنقاذ الكوكب. وتحفز العديد من العوامل عملية إجراء تغيير في كيفية تعاملنا مع بيئتنا، بدايةً من تعزيز الوعي والمسؤولية الاجتماعية والمؤسسية، إلى تفعيل الضغط الحكومي والتشريعات وسبل تنفيذها، على سبيل المثال لا الحصر. ولكن هل نحن نخطئ في إتباعنا لنهجٍ محدودٍ ومتأخرٍ جدًا؟
على مدار الثلاثين عامًا الماضية، تسبب النشاط البشري في إطلاق حوالي 500 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون، وهو ما يقرب من نصف الكمية التي انطلقت خلال فترة القرن ونصف الماضية، مما يدل على ضعف الجهود التي كنا نبذلها للحد من انبعاثات الكربون . وحولت بعض الدول مثل نيوزيلندا والمملكة المتحدة والسويد وفرنسا تشريعات الحد من تغير المناخ إلى قوانين، وتعهدت بالقضاء على مجمل انبعاثات الكربون بحلول عام 2050. وقد سعت دول أخرى إلى حظر المواد البلاستيكية التي تستخدم لمرة واحدة، في حين فرضت العديد من الدول "ضرائب الكربون" على المركبات في مناطق مختلفة.
وفي الوقت نفسه، وصلت أسعار الوقود الأحفوري إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، بينما توصف صناعة تعدين الفحم ومحطات الطاقة التي تعمل بالفحم بأنها ضرورية لإعادة بناء الاقتصادات الكبيرة وتوفير الوظائف. وتتعرض جودة التربة والغذاء للتدهور، وباتت الأغذية والأزياء الرخيصة تلوث بيئتنا، وتسببت أدوات التعبئة المواتية في تلوث مجارينا المائية، وبدأت القمامة المصدرة تظهر في البلدان الفقيرة. وتوجد اللدائن الدقيقة والمنتجات البلاستيكية النانوية في كل ناحية من أنحاء كوكبنا، حيث تظهر في الثلوج بالقطب الشمالي، وفي الهواء الموجود فوق المحيط الهادئ، والهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والطعام الذي نأكله.
وتؤثر الملدنات والمركبات المسببة لاضطرابات الغدد الصماء التي نتعرض لها في كل مكان على خصوبة الجنس البشري. ورغم ذلك، يمكن القول إن الموارد الطبيعية للأرض لا يمكن أن تستمر في الحفاظ على النمو السكاني العالمي. فنحن نواجه أزمة تنوع بيولوجي كبيرة في جميع أنحاء العالم، مع آثارها المدمرة على الأمن الغذائي والمائي والتدهور الناجم عن التلوث؛ بالإضافة إلى الانقراض الرئيسي السادس، وهو فقدان غادر للأنواع يمكن ملاحظته بالكاد، وهذا خطأنا تمامًا. وتتعرض الغابات للقطع الجائر من أجل منتجات استهلاكية مهملة ولتوفير مساحة أكبر للزراعة التي يديرها الإنسان، بينما تتعرض الشعاب المرجانية والغابات المطيرة للتدمير، فضلاً عن القضاء على أنواعٍ لم نتمكن حتى من اكتشافها. ولا يمكننا إلقاء اللوم في هذه المرة على أي آثار لكويكبات أو انفجارات بركانية، حيث أن طريقة عيشنا تقتلنا حرفياً وتقتل الكوكب الذي نعيش عليه.
ما توفره الطبيعة
توفر الطبيعة قدرًا كبيرًا جدًا مما نحتاجه في هذا العالم، بداية من الماء والغذاء، إلى المنتجات الطبية، والليثيوم والكوبالت الذي يُستخدم في صنع بطاريات السيارات الإلكترونية، وهي مواد نستخرجها من بلدان مثل بوليفيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، التي تعاني بشدة من المشكلات البيئية المرتبطة بعمليات استخراج هذه المواد. وسوف نواجه مشكلة حقيقية في ظل غياب هذه الموارد الطبيعية.
وبصفتنا مجتمعًا عالميًا، يتعين علينا التوقف عن التشدق بالكلام عن البيئة والمشاركة فعليًا في حمايتها. وتوفر مبادرات مثل أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة إجراءات توجيهية للوصول بأمان إلى عام 2030، بفضل احتوائها على 17 هدفًا مدعومًا بمجموعة واسعة من المبادرات. ومع ذلك، لا يمثل تحديد هذه الأهداف سوى الخطوة الأولى، ويتطلب الأمر عملاً جادًا لتنفيذها. ويستدعي ذلك وجود برامج حوكمة قوية، وتوافر مستوى من التركيز والتصميم لم نره بعد، مع تعاون عابر للحدود وتفكير على مستوى أعلى لا يبدو أنه قابل للتحقق بعد. وتعني التفاوتات العميقة في إمكانية الوصول إلى الخدمات والموارد مثل التعليم والمياه، وفي مستويات الفقر والمعايير الأساسية للمعيشة البشرية أنه على الرغم من كوننا مجتمعًا عالميًا، فإن العبء لا يزال يقع على عاتق الدول المتقدمة. ورغم أهمية كل الإجراءات، إلا أنه لا يكفي التزامنا بالتسميد المنزلي ووضع قواريرنا الزجاجية في سلة إعادة التدوير، دون حتى تحمل عناء التساؤل عن مكان التخلص من هذه القوارير.
وقد أدت جائحة كوفيد-19 إلى توقف الاستثمارات ومشاريع البحوث والتطوير في القضايا البيئية حول العالم، وهي فرصة كبيرة ضائعة. وإذا كانت الأحداث التي وقعت خلال الفترة من 2020 إلى 2021 قد علمتنا أي شيء، فيجب أن نكون قد تعرفنا على مدى ضعفنا بالفعل. ويجب أن ينصب تركيزنا على إعادة بناء الاقتصادات، ويجب أن ترتكز سبل العيش في أعقاب ذلك على كيفية القيام بهذا الأمر بطريقة مستدامة، مع منح أولوية لملاحظة التأثير البيئي لأنشطتنا. وأستطيع أن أفكر في العديد من جوانب حياتي التي تغيرت على الأرجح بعد تفشي الجائحة، مثل انخفاض وقت التنقل للعمل، وتباطؤ وتيرة الحياة بشكل عام، لكنني أتحدث كجزء من القلة المتميزة.
الجهود التي يبذلها المعهد
ونحن في معهد قطر لبحوث البيئة والطاقة، التابع لجامعة حمد بن خليفة، نسعى جاهدين لأداء دورنا الصغير في حماية العالم من حولنا وتوفير أفضل بيئة ممكنة للأجيال الحالية والمقبلة. وبصفتنا علماء ومهندسين وفنيين، فإننا نعمل على دعم قطر في مواجهة تحدياتها الكبرى المتعلقة بالبيئة عبر تطوير التكنولوجيا، وجمع البيانات، والتثقيف، ورفع مستوى الوعي.
وقد تمكنَّا من تجنب سيناريو نهاية العالم حتى الآن، ولكن إلى متى يستمر ذلك؟ ويستحق أبناؤنا الحصول على فرصة؛ ونحن مدينون لهم بحماية موطننا كوكب الأرض والاعتزاز به.
تشغل الدكتورة جيني لولر منصب مدير أول بمركز أبحاث المياه في معهد قطر لبحوث البيئة والطاقة التابع لجامعة حمد بن خليفة.
ملاحظة:
هذا المقال مقدَّم من إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابةً عن الكاتب. والآراء الواردة في هذا المقال تعكس وجهة نظر الكاتب، ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.