بقلم/ د. محمد فرحان
تشهد المنظومة الصحية حاليًا تحولًا عميقًا وجذريًا، إذ تشير التوقعات إلى أنه بحلول عام 2030، واحد من كل ستة أشخاص في العالم سيكون فوق سن 65 عامًا، وهي زيادة كبيرة مقابل النسبة المتوقعة عام 2019، وهي واحد من كل 11 شخصًا، مما يفرض تحدياتٍ هائلة وملحّة أمام أنظمة الرعاية الصحية تستلزم استراتيجياتٍ فورية ومبتكرة لتلبية الاحتياجات المطّردة لكبار السن.
وتأتي الأمراض المزمنة المرتبطة بالشيخوخة، مثل السرطان والسكري، وكذلك الاضطرابات العصبية مثل الزهايمر، في طليعة هذه التحديات، لذلك يتطلب هذا التغيير في توزيع الأمراض منهجًا متكاملًا للابتكار في مجال الرعاية الصحية، بحيث يشمل آخر التطورات في مجال الوقاية والتشخيص والعلاج واستراتيجيات الرعاية طويلة الأجل.
ويُعتبر ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية من أكبر التحديات التي تواجه المجتمعات مع تقدم السكان في العمر، فكبار السن يحتاجون عادةً إلى المزيد من العلاجات الطبية والأدوية، فضلًا عن الإقامة في المستشفيات لفتراتٍ أطول وأكثر تواترًا، وغير ذلك من الخدمات المساندة، مثل الرعاية الصحية المنزلية. في الولايات المتحدة وحدها، من المتوقع أن يرتفع الإنفاق على الرعاية الصحية لكبار السن بنسبة تزيد عن 40% بحلول عام 2040، مع تقدم جيل "الطفرة" في السن، وكذلك تشهد جميع دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا زيادةً في نفقات الرعاية الصحية، فعلى سبيل المثال، أنفقت دولة قطر عام 2019 حوالي 1807 دولارًا للفرد الواحد من ناتجها المحلي الإجمالي في مجال الرعاية الصحية، مما يجعلها الأعلى إنفاقًا في المنطقة.
ومع ذلك، لتوفير رعاية ميسورة التكلفة لكبار السن، يجب على الدول تخصيص المزيد من الموارد المالية واعتماد نماذج جديدة للدفع، إذ يستلزم هذا العبء الاقتصادي اتباع مناهج مبتكرة لتخصيص الموارد ووضع استراتيجيات رعاية فعالة من حيث التكلفة، ومع زيادة متوسط الأعمار وانتشار العديد من الأمراض المزمنة، ستزداد الحاجة إلى فرق رعاية متكاملة ومتعددة التخصصات، لا سيّما طب المسنّين، كما سيزداد الطلب على أطباء المسنّين والممرضين والأخصائيين ومساعدي الرعاية المنزلية وغيرهم من مقدمي الرعاية الصحية الذي تلقوا تدريبًا لتلبية الاحتياجات المعقدة للمرضى كبار السن، لذلك لا بد أن يخضع هؤلاء العاملون لبرامج تدريبية شاملة تؤهلهم لتقديم خدمات رعاية صحية عالية الجودة. بالإضافة إلى ذلك، قد تحتاج مرافق الرعاية الطويلة الأمد، مثل دور رعاية المسنين ومستشفيات الرعاية النهائية وخدمات الرعاية الملطّفة إلى التوسع السريع، ويجب أن يكون ذلك مصحوبًا بحوافز ومبادرات لجذب المزيد من العاملين في مجال الرعاية الصحية إلى تخصصات طب المسنّين.
وفي حين يفضل العديد من كبار السن أن يتقدموا في العمر وأن يتلقوا الرعاية في المنزل، إلا أن معظم خدمات الرعاية الصحية لا تزال تُقدم في المستشفيات وغيرها من المرافق الطبية، ومع ذلك بدأت أنماط خدمات الرعاية الصحية في التحول نحو المزيد من الخدمات المنزلية، وبرامج رعاية البالغين نهارًا، والمساعدة في النقل وتوصيل الوجبات، وغيرها من أشكال الدعم المجتمعي، وبفضل تقنيات الرعاية الصحية عن بُعد، والمراقبة عن بُعد، ووسائل المساعدة في التنقل، وأنظمة المنازل الذكية، سيتسنى لكبار السن العيش بشكلٍ مستقل مع البقاء على اتصال بمقدمي الرعاية الصحية، ويتطلب هذا التحول نحو الرعاية المجتمعية تطويرًا كبيرًا للبنية التحتية ودمجًا سلسًا للتكنولوجيا في نماذج الرعاية التقليدية.
وقد أدّى التوجّه نحو دمج التقنيات الحديثة إلى إحداث ثورة في مجال الرعاية الصحية لكِبار السن حول العالم، حيث يتصدر الذكاء الاصطناعي، والتطبيب عن بُعد، والمراقبة عن بُعد، هذا التحوّل، فمثلًا يُسهم الذكاء الاصطناعي في تعزيز دقة التشخيص، والتنبؤ بالمخاطر الصحية، وتصميم خطط علاج شخصية، بينما يساعد التطبيب عن بُعد في كسر الحواجز التي تحول دون الوصول إلى الرعاية الصحية، من خلال فتح المجال أمام الاستشارات الإلكترونية وعلاج الأمراض المزمنة عن بُعد، أما المراقبة عن بُعد، فتُتيح التدخل المبكر وتعزيز الالتزام بالأدوية من خلال التتبع المستمر للوضع الصحي خارج المرافق السريرية، وذلك بواسطة الأجهزة الملبوسة، والأجهزة المنزلية الذكية، وأجهزة الاستشعار القابلة للزرع.
ولكنّ الابتكار التكنولوجي في مجال الرعاية الصحية يواجه تحدياتٍ لا يمكن تجاهلها، بما في ذلك الافتقار إلى المعرفة الرقمية بين كبار السن، إلى جانب مسائل خصوصية البيانات، وتدريب مقدمي الرعاية الصحية، وضمان الوصول العادل إلى خدمات الرعاية، التي يجب التعامل معها بحكمة لتحقيق الاستفادة الكاملة من إمكانات هذه الابتكارات، وفي هذا السياق، يتعين علينا أن نضع أطرًا تنظيمية ومبادئ توجيهية أخلاقية مُحكَمة، لضمان أن تخدم هذه التقنيات جميع شرائح المجتمع المتقدمة في السن بكفاءةٍ وإنصاف.
ومع ارتفاع النفقات المخصصة لرعاية كبار السن، يزداد تركيز أنظمة الرعاية الصحية على الوقاية من الأمراض المزمنة المرتبطة بالعمر وتأجيلها، كما يجري تخصيص المزيد من الموارد لتعزيز صحة ورفاه كبار السن، من خلال التغذية السليمة والنشاط البدني والمشاركة الاجتماعية والإقلاع عن التدخين والفحوصات الوقائية وتقديم الاستشارة بشأن التعامل مع الأمراض المزمنة، لأنّ للحفاظ على صحة كبار السن لأطول فترة ممكنة دورًا بالغ الأهمية في تخفيض تكاليف الرعاية الصحية، ويتطلب هذا النهج الوقائي، القادر على الحد من عبء الأمراض المزمنة، تغييرًا في نماذج الرعاية الصحية، للانتقال من علاج الأمراض إلى اتخاذ إجراءات استباقية تمنع أو تحد من حدوثها.
وفي الوقت الحالي، تجري جهود البحث والتطوير، التي تركز على احتياجات كبار السن المتعلقة بالرعاية الصحية، على قدمٍ وساق، حيث يقوم الباحثون باستكشاف أساليب علاجية وأدوات تشخيصية جديدة للحالات المرتبطة بالتقدم في السن، ويشمل ذلك مناهج الطب الشخصي المصممة خصيصًا لتلائم الهوية الجينية لكبار السن، والابتكارات الدوائية التي تقلل من الآثار الجانبية وتحسّن آليات توصيل وتوزيع الأدوية وترفع من مستوى الالتزام بها. ومن أوجه الابتكار الناشئة في هذا المجال أيضًا طب التجديد، الذي يستخدم الخلايا الجذعية لإعادة إنبات واستبدال الخلايا والأنسجة والأعضاء التي تتأثر بالتقدم في العمر والأمراض. وإلى جانب ذلك، الابتكارات التي نشهدها في الأجهزة الطبية وتطبيقات الهواتف الذكية لتتبع وتحسين الحركة والتغذية والصحة العقلية تُسهم بشكلٍ كبير في ضمان تقدّم الأفراد بالعمر بينما يتمتعون بصحةٍ جيدة.
تمثل شيخوخة السكان في العالم تحولًا ديموغرافيًا هائلًا، مما يجبر أنظمة الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم على إعادة تقييم وإعادة ابتكار مناهجها في رعاية كبار السن، لأنّ هذا "التسونامي الفضي" يتطلب إصلاحًا شاملًا للكيفية التي يتم بها تقديم وتطوير وتمويل خدمات الرعاية الصحية لكبار السن، ولضمان التعامل الناجح مع هذا التحول الديموغرافي، يجب أن نشرع في رحلة ابتكارٍ وتغيير متعددة الأبعاد، ويشمل ذلك إعادة هيكلة نظام الحوافز المالية لضمان توفير رعاية مستدامة بأسعار معقولة، وإعادة تصميم نماذج الرعاية المجتمعية، ودعم جهود البحث والتطوير فيما يخص الحالات المرتبطة بالشيخوخة، وتوظيف التقنيات المتطورة لتعزيز عملية تقديم الرعاية وإدارتها، والتصدي للتحديات التي تواجه القوى العاملة من خلال مبادرات التعليم والتوظيف، والنهوض بالرعاية الوقائية.
إن التقاعس عن العمل ليس خيارًا واردًا، فالفشل في تهيئة الظروف المواتية يعني وجود أنظمة رعاية صحية منهكة ومثقلة وشريحة كبيرة من السكان المسنين المحرومين من الرعاية اللازمة، وبينما نتطلع إلى المستقبل، يجب أن يكون هدفنا الجماعي هو إنشاء نظام رعاية صحية يضمن تقدمًا صحيًا وكريمًا في السن بتكاليف ميسورة. هذا التحول الديموغرافي ينطوي على تحدياتٍ وفرصٍ للابتكار والتقدم المجتمعي على حدٍ سواء، وفقط من خلال استيعاب هذا التغيير والتعامل معه بإبداع ورحمة والتزام، يمكننا بناء مستقبلٍ رحيمٍ بكبار السن يقدم لهم الدعم الكافي واللازم من خلال أنظمة رعاية صحية متطورة وسريعة الاستجابة. الآن هو الوقت الأنسب للعمل لتمهيد طريقٍ من الرخاء والرفاه للأجيال القادمة.
** الدكتور محمد فرحان يعمل أستاذًا مساعدًا في كلية العلوم الصحية والحيوية بجامعة حمد بن خليفة.
** تم تقديم هذا المقال من قبل إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابة عن مؤلفه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عنه، ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.