مقال رأي العواقب الأخلاقية لفيروس كورونا
محمد إفرين توك وبيان خالد
على مدى الخمسين عامًا الماضية، شهدنا موجةً من الاستغلال التجاري لكل جانب من جوانب حياتنا تقريبًا. فقد أضحت خصخصة التعليم، والرعاية الصحية، والأمن، والمياه، والكهرباء، وكل شيء آخر تقريبًا حقيقةً يوميةً. وعلاوة على ذلك، استُغِلت كل أزمة من الأزمات العالمية خلال هذه الفترة استغلالًا سياسيًا لإضفاء الشرعية على التغَّول المتزايد للأسواق، وتصوير الوضع على أنه تراجع لقدرات الدولة. ومع ذلك، تكمن المفارقة في استمرار تصوير الحكومات على أنها الجهات المنقذة في مثل هذه الحالات.
ونحن نواجه اليوم أزمة عالمية أخرى في ظل انتشار فيروس كورونا "كوفيد-19"، ونحتاج إلى أن نبدأ في العمل على التعافي منها. ويتطلب التعافي الكامل الابتعاد عن الآثار المادية والاجتماعية لهذا الفيروس، ومن بينها الذعر المعنوي العالمي الذي تسبب في حدوثه. وللقيام بذلك، يجب علينا العودة إلى منشور طرحته صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر على موقع الإنستجرام، مؤخرًا، تدعو فيه الجميع إلى إدراك عمق وطول أمد الأزمة التي نمر بها.
منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي، اتبعت دول حول العالم سياسات ليبرالية جديدة ترى أن المنافسة عنصر أساسي لتنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. وكان من المفترض أن توفر الأسواق الحرة وغير الخاضعة للتنظيم الرقابي التوزيع الأمثل للموارد، وهو توزيع لا يمكن أبدًا تحقيقه عن طريق تخطيط الدولة. وقد غيّرت هذه الموجة الجديدة من الرأسمالية العلاقات بين الدولة والمجتمع بشكلٍ جذريٍ.
ونحن نشهد اليوم دعوةً لتعزيز المسؤولية الأخلاقية العالمية للتخفيف من احتياجات الأفراد الذين يقعون ضحايا لفيروس كورونا. ولكننا نبحث عن حكومات قوية و"مهتمة" لعلاج الجماهير، وتوفير الموارد، وتعويض خسائرنا.
وقد زادت شعبية وسم "#خلك_فالبيت" حيث أنه يشجع المجتمع الدولي (أو بالأحرى يفرض ضغوطًا عليه) لتقليل فرص انتشار الفيروس. ويهدف هذا الوسم إلى تذكير أفراد المجتمع بأهمية الاعتناء ببعضهم بعضًا والامتناع عن ممارسة الأنشطة التي تتمحور حول الذات فقط. وبغض النظر عن "الرغبة" الملِّحة الموجودة لدى البعض للخروج وزيارة الأصدقاء، أو الذهاب للتسوق، يتعين على هؤلاء الأشخاص أن يدركوا أن مثل هذا التصرف يعرض جميع الأفراد الآخرين للخطر. ورغم أن هذا الوسم يرتكز على مبادئ أخلاقية ويعد وسيلة لتعزيز المسؤولية الأخلاقية، إلا إنه لا ينظر بعين الاعتبار إلى حقيقة تنطبق فقط على الأشخاص الذين لديهم "بيتٌ" بالفعل. ولكن ماذا عن الأفراد الذين ليس لديهم أي مأوىً للبقاء فيه؟ أو الأشخاص الذين ليس لديهم الموارد الأساسية التي تكفيهم لبضعة أسابيع؟
إذا كنت تقرأ هذا المقال، فمن الراجح أنك محظوظٌ بما فيه الكفاية لأن لديك مكانٌ يمكنك أن تعزل نفسك فيه مع أحبائك. وسواءٌ كنت بمفردك أو مع عائلتك، ربما تتمتع أيضًا برفاهية مشاهدة شبكة نتفليكس أو قراءة كتابٍ في منزلك مع انتظارك لانقضاء هذه الفترة.
وبحسب بحث أجرته جامعة ييل الأمريكية، يُعتقد أن هناك ما لا يقل عن 150 مليون مشرد في العالم، بينما يفتقر 1.6 مليار شخص آخر للسكن الملائم. وعلاوة على ذلك، مع استمرار نمو المدن، يتزايد أيضًا مسار نمو أعداد المشردين. واستنادًا إلى بحث صادر عن مؤسسة المعونة الغذائية، يفتقر 795 مليون شخص حول العالم للغذاء الكافي الذي يمكنهم من عيش حياة صحية ونشطة. وبالإضافة إلى ذلك، يتوقع البنك الدولي ومنظمةالصحة العالمية أن يفتقر حوالي نصف سكان العالم لإمكانية الوصول إلى الخدمات الصحية الأساسية.
والدرس الذي يمكن تعلمه هنا هو أن خسائر ضحايا الليبرالية الجديدة تفوق خسائر الضحايا الآخرين بسبب تراجع قدرات الدول منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي.
ويذكرنا فيروس كورونا بأهمية التفكير في الأشخاص الذين لا يمتلكون رفاهية "البقاء في المنزل" والحفاظ على سلامتهم في هذه الأوقات العصيبة. ولدعم هذه الفكرة، تناولت العديد من المنشورات التي ظهرت، مؤخرًا، على مواقع التواصل الاجتماعي هذه المسائل. فعلى سبيل المثال، وجدنا العديد من المنشورات تقول: "عزيزي العالم، كيف تجد الإغلاق الكامل؟ - كشمير"، و"عزيزي العالم، ما رأيك في حظر السفر؟ - فلسطين"، و"عزيزي العالم، كيف تجد الخوف؟ الأويغور، الصين"، و"عزيزي العالم، ما رأيك في الانفصال عن أحبائك؟ - سوريا". وتسلط هذه الأمثلة القليلة الضوء على أن الأشخاص الذين يعيشون بلا خوف وينعمون بالراحة في الظروف العادية اليومية يجب ألا ينظروا إلى حياتنا باعتبارها أمرًا مسلمًا به على الإطلاق. وقد تابعنا منشورات أخرى على شبكات التواصل الاجتماعي تقول: "إلى الأشخاص الذين لديهم الآن 28 كيسًا من المعكرونة، وإلى من يبحثون في السوق السوداء عن معقمات اليدين، وإلى هؤلاء الذين يتقاتلون على ورق المرحاض، وإلى من يخططون للهروب من منطقة موبوءة بفيروس كورونا: لا تنظروا بازدراء مجددًا إلى الفارين من الحرب والمجاعة."
وتشجعنا الرسالة التي نشرتها صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر على التشكيك في الافتراضات التي كنا ننظر إليها باعتبارها حقائق مسلمًا بها لفترة طويلة. فقد أدت الاختلافات والتباينات الحالية ومظاهر عدم المساواة التي تسبب البشر في حدوثها خلال الخمسين عامًا الأخيرة، فيما يتعلق بالوصول إلى الاحتياجات الإنسانية الأساسية، والتعليم، والصحة، والعمل، إلى تعرض العديد من الأفراد لأحكام أو إجراءات تُتخذ بناءً على القيمة المادية للفرد بدلًا من قيمته الأخلاقية والمعنوية. فقد أصبح المواطنون حتمًا "مستهلكين"، وتأثرت مفاهيمنا بشدة في ضوء تعريفنا للقيمة عبر الإشارة إلى مقدار "قدرتنا" على الاستهلاك. وبدأنا في تحديد النجاح الأكاديمي بناءً على طريقة تحقيقنا لقيمة تجارية منه. وقد أضحت "التنمية" مرادفًا لـ "الثروة المالية"، وأدى الاعتماد المفرط على الكسب المادي إلى ظهور حالات شاذة مثل الهوس بالأسواق.
وما تحتاجه البشرية هو أن تصبح شعوب العالم "حجاجًا من المواطنين"، وهو مصطلح أشار إليه الدكتور ريتشارد فولك، الأستاذ بجامعة برينستون، مؤخرًا، في أحد خطاباته التي ألقاها في جامعة حمد بن خليفة حول أهمية التقريب بين المجتمعات للعمل على توفير مستقبل أفضل للجميع. وعرَّف فولك "الحاج المواطن" بأنه "شخص لديه ثقة في الغايات غير المرئية والمرغوبة للمساعي البشرية. ويشارك هذا الشخص في النضال، ويتخيل حياته أو حياتها على أنها رحلة روحية أو حج نحو مستقبل أفضل." وبهذه العقلية فقط، سنتمكن من وضع مسار مخصص بصدق للعمل على تحقيق المصالح البشرية والعالمية.
وقد أظهر فيروس كورونا أننا كنا نبحث عن حلول سريعة لاحتياجات ومشاكل بشرية متأصلة. فقد كنا نمنح أولوية للمخاوف المادية على المعنوية، ولجأنا إلى استخدام مسكنات سريعة للتخفيف من آثار المشاكل العالمية. ونحن نواجه اليوم حقيقة قاسية تتمثل في وصولنا إلى طريق مسدود. إننا بحاجة إلى بداية جديدة، وتحتاج البشرية إلى مصدر إلهام، أو "تقدم سريع"، حسبما أشارت سموها، لإحداث نقلة نوعية تساعدنا في "العودة إلى صوابنا".
* يشغل الدكتور محمد إفرين توك منصب العميد المساعد لمبادرات الإبداع والتقدم المجتمعي بكلية الدراسات الإسلامية في جامعة حمد بن خليفة، بينما تشغل بيان خالد منصب زميلة أبحاث بالكلية.
ملاحظة:
هذا المقال مقدَّم من إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابةً عن الكاتب. والآراء الواردة في هذا المقال تعكس وجهة نظر الكاتب، ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.