البيانات الصحفية مسارات التحول في خضم الأزمات - العلم والتعلم الاجتماعي وتمكين المواطن عوامل أساسية
د. ديبورا بروسنان ود. أندرياس ريتشكيمر ود. جيمس بوهلاند
تزامن مقالنا الأخير الذي دعا إلى عقد اجتماعي جديد وأعقبه أحداث عالمية مهمة مثل الإعلان عن إمكانية توفر لقاح فعال قبل نهاية هذا العام من ناحية، وترقب نتائج الانتخابات الأمريكية من ناحية أخرى. وقد أثارت هذه الأحداث الكثير من الآمال في إمكانية اختفاء الانقسام بين العلم والأيديولوجية الشعبوية عن قريب، وهذا في رأينا أمر ينم عن سطحية إلى حد ما. إننا ما لم ننخرط في مساعي واعية لرأب الصدع نخشى أن تكون فكرة العودة إلى التفكير العقلاني وهمًا، وقد يؤدي ذلك حتى إلى زيادة حدة هذا الانقسام. وفي رأينا، أن التعلم الاجتماعي، الذي يشمل جميع الأطراف كمواطنين يعملون من أجل الصالح العام، هو عملية تحويلية وتطويرية وضرورية في الوقت الحالي.
كشفت الجائحة الحالية عن انقسام حاد بين العلم ومختلف الأيديولوجيات. فمن ناحية، ثمة أولئك الذين يثقون في قدرة المجتمع العلمي على التوصل إلى حلول موثوقة تستند إلى الأدلة لمعالجة الأزمات والقضايا المجتمعية. ومن ناحية أخرى، أولئك الذين يختارون النتائج الملائمة لمعتقداتهم أو أجنداتهم السياسية بشكل انتقائي، أو يطرحون انقسامات زائفة مثل العلم في مواجهة الاقتصاد، بل والأسوأ من ذلك، ثمة آخرون يروجون عن عمد لأخبار كاذبة ونظريات المؤامرة حول النتائج والمخرجات العلمية.
لا يعتبر هذا الانقسام ظاهرة جديدة بأي حال من الأحوال. إنه أمر مألوف جدًا لأي شخص شهد معالجة العلم والسياسة، على سبيل المثال، لظاهرة تغير المناخ، أو الطاقة النووية، أو اللقاحات. ومع ذلك، يكمن الاختلاف في السرعة والشدة غير المسبوقين على الإطلاق اللذين تجلى فيهما هذا الانقسام خلال أزمة جائحة كورونا (كوفيد-19). فقد أصبحت الأمور أكثر تعقيدًا عندما ضربت هذه الجائحة عالمًا غير مستقر، بسبب التدهور السريع الذي أصاب المؤسسات والقيم السياسية التي طالما تاقت إليها الإنسانية منذ أمد بعيد، فمن شأن هذه المؤسسات وتلك القيم أن تؤمّن الشرعية والحكم الرشيد، بينما تستمر موجات الاستبداد والتطرف في الارتفاع.
وعادةً ما يتخذ العلماء موقفًا عالقًا في منطقة وسط، كما يكشف الجدل حول الدكتور أنتوني فاوتشي وآخرين. و لا يبتهج العلماء باعتبارهم متخصصين بشأن حقيقة أن نماذجهم وتوقعاتهم قد تتنبأ بتأثير تغير المناخ والكوارث والأوبئة على مدار عقود، بينما تم تجاهل أو معارضة المخرجات التي توصلوا إليها على نطاق واسع. تقول الفكرة المتداولة عبر الإنترنت "تبدأ جميع أفلام الكوارث بتجاهل عالم."
العلماء والمواطنون
ومع ذلك، وفي حدود المجتمع العلمي، أُعلن عن 2020 باعتباره عام نهضة علمية مدفوعة بمكافحة فيروس كوفيد-19. ففي أقل من عام، وضع العلماء والأطباء تسلسلًا للفيروس، وطوروا عدة لقاحات واعدة، وتعلموا الكثير عن سلوك الفيروس وكيفية علاجه. وفقًا لما ورد بمجلة "ساينس"، تشير أحد التقديرات أن عدد المؤلفات المنشورة حول فيروس كوفيد-19 منذ يناير 2020 قد وصل إلى أكثر من 000,23 ورقة بحثية، وتتضاعف كل 20 يومًا، مما يجعله واحدًا من أعلى الموضوعات فيما يتصل بالمؤلفات العلمية المنشورة على الإطلاق. والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يساعد هذا النجاح الذي لا يمكن إنكاره في جسر الهوة في هذا الانقسام؟
لا تكمن المشكلة في وجود ثغرات في التواصل بين العلماء، رغم أن ذلك قد يكون مجالاً للنقد المشروع في بعض الأحيان. هناك ببساطة القليل من الأدلة على أن المعلومات في حد ذاتها تؤدي إلى حالة من التغيير الاجتماعي التحولي. فعلى سبيل المثال، وضع العلماء المشاركون أنفسهم في الخطوط الأمامية في إطار النقاش الدائر حول تغير المناخ. واليوم يرتفع وبدرجة كبيرة عدد المجموعات التي تبلّغ عن إفادات بشأن أحدث النتائج العلمية حول فيروس كورونا عبر الإنترنت. وبدلاً من ذلك، يحتاج العلماء وغير العلماء، على حد سواء، إلى فهم الدور المحوري الذي يلعبه العلماء كمواطنين في مجتمعاتهم.
لذلك، ما هو المطلوب لمد الجسور بين الحقائق العلمية في مواجهة الانقسام في مرحلة ما بعد الحقيقة؟ وكيف يمكن للمجتمعات أن تتعافى وتتمتع بالصلابة والمرونة في مواجهة تهديدات السلطوية والأيديولوجيات المعادية للعلم؟
لقد طالبنا في وقت سابق بعقد اجتماعي جديد بين المواطنين من جهة، وبين المواطنين وحكوماتهم على أساس مبادئ الحقيقة والمساواة والمسؤولية المشتركة والتضامن والشرعية من جهة أخرى. وأطلقنا عليه اسم "الرابط" الذي يجمع بين الدول والمجتمعات، لا سيما في أوقات الأزمات. وفي حين أن عقدًا اجتماعيًا جديدًا بين المواطنين وحكوماتهم هو شرط أساسي لمعالجة الأزمات العالمية المعقدة، فإن التعلم الاجتماعي يوفر الحافز والإجراءات العملية للإنسان لتغيير هذا المسار الانقسامي المدمّر الذي يشوب المرحلة الحالية.
فكرة التعلم الاجتماعي
التعلم الاجتماعي هو مفهوم صاغه عالم النفس الاجتماعي ألبرت باندورا ويؤكد على دور البيئة الاجتماعية في سياقها كمحرك للتغيير السلوكي. يتضمن عناصر عقلانية، مثل حسابات التكلفة والفوائد والحوافز المادية، ولكنه يركز أكثر على عملية التعلم التكراري التي تشمل الملاحظة والتقليد والنمذجة كمحفزات. ويعتبر الاهتمام والتحفيز أساسيين في هذه العملية، بينما أُضيف الذكاء الوجداني والتعاطف والتراحم، مؤخرًا، إلى العناصر المعرفية للتعلم الاجتماعي التي وصفها باندورا.
وتشير الأدلة التاريخية إلى أن التعلم الاجتماعي يحقق غاياته، وكان له مضامين تحويلية على مستويات مختلفة. ومن الأمثلة التاريخية التي توضح كيف يمكن أن يكون التعلم الاجتماعي ناجحًا وقويًا إلغاء العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية، وظهور حركة الحقوق المدنية في الستينيات من القرن الماضي، وتحول ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية إلى قاعدة للديمقراطية والحرية. تضمنت جميع هذه الأمثلة التحويلية حركات اجتماعية واسعة النطاق، تم تحفيزها من خلال عمليات التعلم الاجتماعي، وأدت إلى "وضع طبيعي جديد" يختلف جذريًا عما سبقه.
وتشمل الأمثلة الحديثة التي تتضمن أدلة علمية الطريقة التي طُبق بها حظر التدخين في جميع أنحاء العالم، حيث حدث تغيير في قبول التدخين اجتماعيًا وبشكل جزئي بسبب "الشعور بالخجل" نتيجة لتأثير التدخين السلبي. وتمثل سياسات حظر التدخين اليوم نجاحًا كبيرًا في مجال الصحة العامة نظرًا لتأثير التعلم الاجتماعي. وعلى نحو مماثل، تحققت إنجازات كبيرة في التدخلات التي تستهدف أزمة فيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) في جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا، أو وباء إيبولا في غرب إفريقيا بين عامي 2013 و2015 من خلال أدوات التعلم الاجتماعي (على سبيل المثال، للتغلب على الطقوس والخرافات ذات النتائج العكسية)، ودمج الأطباء، والمرضى، والأقارب، وقادة المجتمع، والزعماء الروحيين، وصناع القرار، ووسائل الإعلام على حد سواء. لقد أثبت انخراط العلماء، والجهات المعنية، وأعضاء المجتمع، وصناع القرار في حل القضايا البيئية، مثل حماية الأنواع المهددة بالانقراض، أو الحفاظ على البيئة، أو إدارة المياه، فعاليته على المستويين الوطني والعالمي.
المواطنة في إطار عقد اجتماعي متجدد
يتمثل الجانب المشترك بين الأمثلة المذكورة أعلاه في النهج الأولي، الذي يبنى على عقد اجتماعي ملزم لجميع الأطراف كمواطنين متساوين في مساعٍ مشتركة نحو إنشاء (أو إعادة تأسيس) جهود تعاونية للصالح العام، بحيث يوافق كل مشارك على الانخراط مع المجتمع ويلتزم بالعمل على تعزيز الصالح العام. ويجب أن يتضمن هذا العقد تمكينهم وفهم مشترك وواضح للقواعد والمعايير والقيم الأساسية.
وعلى هذا الأساس، يمكن أن تنجح عملية التعلم الاجتماعي في تغيير الأعراف والمواقف والسلوكيات إلى الأفضل. وتعد القيادة والتمكين والتعاطف وتبادل أفضل الممارسات من الأمور المهمة، التي تقود إلى الإنتاج المشترك للمعرفة والسلوكيات الجديدة. في هذه المواقف، ونظرًا لأن العلماء يشاركون كمواطنين ومتعلمين، يمكن الحد من مخاوف الجمهور بشأن الآثار المترتبة على المخرجات العلمية، وبناء مستويات أعلى من الثقة دون الإخلال بالنسيج الاجتماعي للمجتمع.
إن مسؤولية بناء الثقة لدى الجمهور تجاه العلم وتعزيز هذه الثقة لا تقع على عاتق العلماء وحدهم، بل تشمل جميع المواطنين. وبقدر ما ندعو العلماء إلى الانخراط في العمل مع مجتمعاتهم، فإننا ندعو بنفس القدر غير العلماء إلى الانخراط في فهم أفضل للعلوم، حتى يتمكن جميع المواطنين من المشاركة في إيجاد حلول تستند إلى الأدلة واحتياجات المجتمع وقيّمه الإنسانية.
وقد ظهر شعور بالتفاؤل الحذر يشجع المجتمعات على الانخراط في التعلم الاجتماعي. إننا ليس لدينا الكثير من الوقت لنضيعه، فعالمنا يواجه أزمتين عالميتين في وقت واحد: جائحة كوفيد-19 وتغير المناخ، خلال فترة تتصاعد فيها وتيرة السلطوية. إنه الوقت المناسب للقادة والمواطنين للبدء في تنفيذ عمليات تحويلية، من شأنها أن تقود المجتمعات إلى الأمام، وتمنع العودة إلى عهود مظلمة وأكثر انقسامًا.