تأليف: مدثر علي بيج
يُمثل اليوم العالمي للعمل الإنساني تذكيرًا مؤثرًا بالصعوبات المستمرة التي تواجهها المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة في مرحلة ما بعد النزاعات. وبينما تركز الجهود الإنسانية التقليدية في كثير من الأحيان على الإغاثة الفورية وإعادة الإعمار، إلا أن هناك حاجة ملحة لإعادة صياغة هذه المبادرات من منظور الهوية والتاريخ والقيم الإسلامية.
إن التخلص من وسائل الاستعمار في العمل الإنساني خطوة حاسمة في هذه العملية، فالغالبية العظمى من المشاريع الإنسانية في هذه المجتمعات الإسلامية التي مزقتها الحروب والنزاعات يتم إطلاقها وتنفيذها من قبل الغرب، الذي يفشل، أو الأسوأ من ذلك، يرفض مراعاة رغبات وتطلعات السكان المحليين. وفي أفغانستان وليبيا واليمن والصومال والسودان ومالي، ومؤخرًا والأكثر إيلامًا فلسطين، عانى المسلمون كثيرًا من صراعات القوى الإقليمية والعالمية الكبرى، ومشاريع الهيمنة، والحروب بالوكالة والصراعات، وأعمال القمع والقهر الصارخة. لقد عانوا من فقدان أحبائهم ومنازلهم ومدارسهم ومستشفياتهم ونسيجهم الاجتماعي وسبل عيشهم، وآخر ما يريدون أن يفقدوه هو إحساسهم بهويتهم المتجذرة في الإسلام والتاريخ والثقافة، فهذه العناصر هي الشيء الوحيد الذي منحهم القوة للصمود وتحمل هذه المصائب والمعاناة التي لا تنتهي.
وينبغي على العاملين في المجالات الإنسانية أن يركزوا جهودهم على تمكين المجتمعات المحلية ومؤسساتها الإسلامية بدلًا من فرض أطر وهياكل غريبة عن بيئاتهم. وإحدى المؤسسات التي شكلت حجر الزاوية في معظم الحضارات الإسلامية وتستحق أن تكون جزءًا لا يتجزأ من هذه الجهود الإنسانية هي مؤسسة "الوقف"، ففي العالم الإسلامي خلال القرون الوسطى، كانت المؤسسات المدنية تدعمها منظومة الأوقاف في الغالب - والتي يقابلها في العصر الحديث "الوقف" - مسؤولة عن إدارة معظم الأنشطة التي تقع في العالم الحديث تحت إشراف الحكومات والبلديات، حيث كانت المؤسسات السياسية في ذلك الوقت تركز فقط على توفير الأمن لرعاياها من التهديدات الداخلية والخارجية وتطبيق العدالة.
من وجهة نظر الدولة، كان تأسيس نظام الوقف طريقة فعَّالة للحكم. على سبيل المثال، قد تمنح الدولة أرضًا كوقف للصوفيين الذين سيُطلب منهم استخدام العائدات لرعاية المسافرين بالإضافة إلى القيام بأنشطتهم الدينية. وبمجرد تخصيص الوقف، كان من المفترض أن يستمر إلى الأبد بشكل مستقل عن الدولة، ولا يمكن أن تخضع مؤسسة الوقف وأصولها لأي مظلة رسمية. وقد ضمن هذا الترتيب استمرار المجتمع المدني في العمل بسلاسة مهما حدث من اضطرابات سياسية خلال تلك الفترة. ولاشك أن عدم اعتماد هذه المؤسسات على الدولة في عملها يعني أنها كانت مستقلة وغير خاضعة لميول ورغبات الإدارات السياسية المتعاقبة. وكان نظام الوقف يوفر خدمات مثل التعليم والصحة وتخفيف حدة الفقر وإقامة المرافق العامة والدينية ومشاريع البنية التحتية. وخلال معظم فترة الحكم العثماني، كانت الأوقاف والمؤسسات التي تدعمها هي المزود الوحيد للخدمات الأساسية الحيوية بالإضافة إلى المؤسسات العلمية والدينية والاجتماعية التي تقع خارج نطاق اختصاص الدولة، وقد أشار بعض العلماء إلى أنه ليس من المبالغة الادعاء بأن الوقف هو الذي وفّر الأُسس للكثير مما يعتبر ”حضارة إسلامية“.
إن مشروع إعادة الإعمار الذي يرتكز على قيم السكان المحليين وتاريخهم وتقاليدهم يُعزز شعورهم بالملكية والديمومة ويشجعهم على أن يكونوا مشاركين فاعلين بدلًا من متلقين سلبيين. واستنادًا إلى هذا المبدأ، فقد تم إطلاق مشروع إنساني يسمى "Waqfchain" وهو أحد الحلول الإلكترونية للوقف تديره منصة (المؤسسة المستقلة اللامركزية - DAO)، وحاليًا في مرحلته التجريبية في أفغانستان حيث تركت عقود من الصراعات والكوارث الطبيعية، بما في ذلك الزلازل الأخيرة، اقتصاد البلاد في حالة يُرثى لها، وقد تأثر نظام الرعاية الصحية في أفغانستان بشكل خاص بالانهيار الاقتصادي ونضوب التمويل الدولي. ومن بين التحديات الصحية الحادة العديدة التي تحاصر السكان هناك، هذا العدد الكبير من وفيات الرُضع والأمهات وإدمان المخدرات. ومما يزيد الأمور تعقيدًا أن مرافق الرعاية الصحية المحدودة أصلًا تتركز إلى حد كبير في المناطق الحضرية، مما يترك الناس في المناطق الريفية والنائية تعاني دون الحصول على الخدمات الأساسية. وتعمل منظمة الصحة العالمية على تخفيف حدة الأزمة في أفغانستان منذ أربعين عامًا، وقد أبدت استعدادها للتعاون في مشروع "Waqfchain" المذكور أعلاه، لإيجاد حل جديد يلبي الاحتياجات الخاصة للأفغان.
وبينما قدم الوقف فوائد جمة للمجتمع المدني الإسلامي، إلا أنه واجه أيضًا تحديات ساهمت في تراجعه في نهاية المطاف، وتتضمن هذه التحديات الفساد وسوء استخدام السلطة الإدارية من قبل مؤسسات الوقف، واختلاس الأصول والمداخيل من قبل الحكام، وعدم الكفاءة والمهنية، ومصادرة الدولة ممتلكات الوقف. ومع ذلك، يمكن معالجة هذه التحديات في البيئات المعاصرة من خلال استخدام ابتكار تكنولوجي حديث. حيث يستخدم مشروع ”Waqfchain“ منصة DAO التي تفتقر إلى جهة مركزية موثوقة، لتُخفف من التحديات الناشئة عن عدم التوافق بين تطلعات المستفيدين والمديرين من خلال تمكين الحوكمة والديمقراطية التشاركية، إذ تستند مدونات DAO إلى "البلوكتشين"، مما يضمن معاملات شفافة وغير قابلة للتغيير. وتتيح التعاقدات الذكية بمنصة DAO العمل المستقل، مما يقضي على معظم قنوات الفساد، ويغلق الأبواب أمام التفسير غير الموضوعي للمعايير، ويتيح أتمتة الإشراف، ويقنن الثقة. ومن حيث الجوهر، فإن الطبيعة اللامركزية والمستقلة للوقف في منصة DAO تحد من معظم أوجه القصور في نظام الوقف التقليدي مع الاحتفاظ بمزاياه التي جعلته العمود الفقري الاقتصادي للحضارة الإسلامية لعدة قرون.
يُمكن لمؤسسة الوقف الإسلامية المعززة بأحدث التقنيات (DAO في حالة Waqfchain) والمدمجة مع التقاليد الأفغانية المحلية مثل (الجيرغا)، أن توفر بنية أساسية قوية لبناء مشاريع إنسانية متعلقة بالرعاية الصحية في أفغانستان. وهذا مزيج ناجح يمكن تكراره في مجالات أخرى، مثل الإسكان والتعليم وتوليد فرص العمل، كما يمكن تعميمه في البلدان الإسلامية الأخرى المتضررة من النزاعات في جميع أنحاء العالم.
وفي الوقت الذي نحتفل فيه باليوم العالمي للعمل الإنساني، دعونا نتحدى أنفسنا للتفكير فيما يتجاوز الأساليب التقليدية، فالمُضي قدمًا في الجهود الإنسانية للبلدان الإسلامية في مرحلة ما بعد النزاعات لا يكمن في فرض نماذج خارجية، بل في إحياء وتحديث التقاليد العريقة التي حافظت على استدامة هذه المجتمعات لقرون من الزمن، ودمجها مع أحدث التقنيات. لقد حان الوقت لأن نوجه نهجنا ليعكس حقًا هويات وتطلعات أولئك الذين نهدف إلى خدمتهم.
* مدثر علي بيج حاصل على ماجستير الآداب في الأخلاق التطبيقية الإسلامية من جامعة حمد بن خليفة، ويعمل حاليًا في الجامعة كأخصائي تحليل بيانات.
* تنشر هذه المقال إدارة الاتصالات بجامعة حمد بن خليفة بالنيابة عن مؤلفها، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.