بقلم صوفي ريختر ديفرو أستاذ مشارك بقسم الدراسات الشرق أوسطية في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية
"هل تعرفين محاميًا جيدًا يمكنه مساعدتي في إجراءات انتقالي إلى ألمانيا؟ أنا في مدينة برلين الآن". ظهرت هذه الرسالة على هاتفي في فترة ما بعد ظهر أحد الأيام منذ أشهر قليلة، وقد وردت إليّ من محمود. لقد عرفت محمود منذ عام ٢٠١٦، وذلك عندما التقيت به في أثينا أثناء العمل على دراسة بحثي مع لاجئين سوريين. كان قد فر إلى تركيا قادمًا من الرقة، مسقط رأسه في سوريا، في أوائل عام ٢٠١٦. ثم عبر بحر إيجة في زورق صغير، ووصل إلى جزيرة يونانية، ولم يكن معه أي شيء حينئذ سوى حقيبة صغيرة بها أغراضه وأوراقه الرسمية. وبعد أن أمضى عدة أسابيع في مخيم مكتظ باللاجئين وشحيح بالخدمات، نُقل محمود بعد ذلك إلى أثينا، حيث تقدم بطلب للحصول على إقامة مؤقتة في اليونان.
ومنذ ذلك الحين، حاول محمود إعادة بناء حياته. لقد بحث عن وظائف، والتحق بدورات لتعلم اللغات الإنجليزية واليونانية والألمانية لزيادة فرصه، وحاول استئجار شقة، وخطط للانضمام إلى أقاربه في ألمانيا لبدء حياة جديدة هناك ... ولكن محاولات محمود لتأسيس حياة في أوروبا اصطدمت بسدود مرارًا وتكرارًا؛ فرفضه أصحاب العمل بسبب وضعه المؤقت، ولم يسمح له مالكو العقارات باستئجار شققهم بسبب وضعه الاقتصادي غير المستقر، وأخيرًا رفضت السلطات الألمانية طلبه للانتقال إلى ألمانيا. أخبروه أن صلة القربى بينه وبين أقاربه بعيدة جدًا، وأنه لديه بالفعل إقامة مؤقتة في اليونان. وسُئل أخيرًا في صيغة "نصيحة" أخيرة عما إذا كان يفكر في العودة إلى الرقة.
ما الخيارات المتاحة أمام اللاجئين المشردين، الذين ليس لديهم سوى أوراق إقامة مؤقتة فقط في قارة أوروبا الحصينة؟ يتضح لنا من قصة محمود أن خياراتهم قليلة، أو ربما تكون معدومة.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كتبت حنه أرندت (١٩٧٣، ٢٩٥-٦) جملتها الشهيرة عن من ليس لهم جنسية:
"إن مأساة البشر الذين ليس لديهم حقوق لا تكمن فقط في أنهم محرومون من الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة، أو المساواة أمام القانون، أو حرية الرأي [...]، ولكن في أنهم لم يعودوا ينتمون إلى أي مجتمع على الإطلاق".
وهكذا، تكشف أرندت عن مغالطات المنظومة "العالمية" لحقوق الإنسان:
"لقد اتضح أن الإنسان يمكن أن يفقد كل ما يُعْرَف بحقوق الإنسان دون أن يفقد سِمته الأساسية التي تميزه بوصفه بشرًا؛ ألا وهي كرامته الإنسانية. ولكن فقدان كيان الدولة وحده هو ما يستثنيه من الطبيعة البشرية"(المرجع نفسه، ٢٩٧).
لا شك أن المشردين، بعد فقد دولهم، لا يُحرمون فقط من الحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمدنية الأساسية، بل يُحرموا أيضًا - وهو الأهم - من "الحق في أن يكون لهم حقوق" (المرجع نفسه). إنهم خارج النظام الدولي للدولة القومية، وليس لهم حقوق ولا سلطة ولا مكان يمكنهم من خلاله المطالبة بما يُسمى حقوق الإنسان. ونظرًا لأن الدول القومية تضم الإنسانية بأكملها، فإن اللاجئين بفقدانهم دولهم قد طردوا من الإنسانية، كما تقول أرندت، ولها كل الحق فيما تقول.
اليوم، نزح قرابة 68.5 مليون شخص قسرًا، وذلك وفقًا لتقديرات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (٢٠١٨). ويأتي أكثر من نصف اللاجئين من سوريا وأفغانستان وجنوب السودان، وتستضيف البلدان النامية في الشطر الجنوبي من العالم حوالي 85٪ من النازحين. ومع ذلك، فإن النزعة الشعوبية المصحوبة بالترويج للأخبار الكاذبة وكراهية الأجانب والتيارات القومية آخذة في الازدياد في معظم البلدان المتقدمة، حيث تفرض تلك الدول بقوة سياساتها المتعلقة بغلق الحدود وممارسات الإقصاء.
إن محمود هو شخص واحد فقط من بين الملايين الذين يواجهون هذا الوضع المحفوف بالمخاطر. إن عدد النازحين، وفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (٢٠١٨)، يرتفع بنسبة ٤٤,٤٠٠ شخص يوميًا، ونحن لا يمكننا تجاهل هذه الأرقام. وفي حين أن صناعة "أزمات" اللاجئين المتنامية باستمرار وأسبابها والاستجابة لها تحتاج بلا شك إلى حلول سياسية، فإن قصة محمود يجب أن تشحذ إنسانيتنا. ويجب أن تجعلنا نعيد التفكير في أفكارنا التقليدية عن المجتمعات بوصفنا مواطنين متجذرين في دول قومية إقصائية. لا يمكننا أن نقف صامتين حيال هذه المآسي، بل يجب أن نسأل: كيف يمكننا إيقاف عملية استبعاد 68.5 مليون شخص من إطار الإنسانية؟
المراجع:
- أرندت حنه (١٩٧٣) أسس الشمولية، دار نشر هاركورت بريس يوفانوفيتش – نيويورك.
- المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (٢٠١٩) الكتاب الإحصائي السنوي: https://www.unhcr.org/figures-at-a-glance.html
الصورة:
منظمة العفو الدولية