الأزمة السياسية في كوريا الجنوبية والشراكات الخليجية من منظور كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية

لطالما حافظت دول مجلس التعاون الخليجي وكوريا الجنوبية على علاقات سياسية واقتصادية عميقة ومتجددة. لذا يرى الدكتور ستيفن رايت، الأستاذ بجامعة حمد بن خليفة، أن هذه العلاقات الوثيقة لن تتأثر بشكل كبير بالأزمة السياسية الحالية في العاصمة سول

News Detail Image

لقد اندلعت الأزمة السياسية في كوريا الجنوبية نتيجة القرار الخاطئ للرئيس يون سوك يول ومحاولته فرض القانون العسكري، حيث إن تأثير هذه الأزمة لا يقتصر على السياسة الوطنية فحسب، بل يطال السياسات الاقتصادية والشؤون الخارجية للبلاد أيضًا، إذ أن سول سعت طوال العقود المنصرمة لتعزيز مكانتها الدولية، فلم يلحق قرار الرئيس يون الضرر بوحدة البلاد السياسية فقط، بل ألحق الضرر بسمعتها الدولية أيضا. ونظرًا لتطور الأحداث بهذا الشأن، يجدر التساؤل عن مدى تأثير هذه الأزمة على مكانة كوريا الجنوبية في الصعيد الدولي، ومكانتها كشريك موثوق لدول مجلس التعاون الخليجي.

وانتقلت كوريا الجنوبية منذ عام 1987 من الحكم الدكتاتوري إلى الحكم الديمقراطي، ففي السابق، كان الذين يشغلون منصب الرئاسة يتمتعون بسلطة دستورية هائلة. ونجوا عدة مرات من محاولات العزل أو الملاحقات الجنائية بسبب طبيعة سياسات البلاد الداخلية الاستقطابية. ويبين مأزق الرئيس يون الحالي هذه المفارقة: فعلى الرغم من نفوذه الواسع، إلا أنه يرى ضرورة فرض الحكم العسكري. وقد أدت هذه الخطوة المثيرة للجدل إلى طريق سياسي مسدود، ومهدت الطريق لمزيد من الجمود.  

وتعاني مصداقية سول الدولية بسبب هذه الأزمة، كما وتزعزعت علاقاتها مع حليفيها الاستراتيجيين اليابان والولايات المتحدة. ويرجح أن الحكم سيصبح أكثر استقرارًا على الصعيد المحلي إذا ما استولى حزب مينجو المعارض على السلطة التنفيذية والتشريعية، ولكن، قد يتسبب ذلك بتباعد واضح في السياسات الخارجية، وخاصة فيما يتعلق بعلاقات الدولة مع كل من طوكيو وواشنطن، كون أن الحزب المعارض يتبنى توجهات أكثر قومية. وفي حال عدول كوريا الجنوبية عن مشاركتها الإيجابية الحديثة مع اليابان، فقد تؤدي تابعيات ذلك إلى تغييرات في الاستراتيجيات الأمريكية النامية في شرق آسيا، وسيتسبب ذلك في تغيير استراتيجيات التصدي للنفوذ الصيني المتزايد. وتؤكد هذه الديناميكيات أن هذه الأزمة محفوفة بمخاطر أوسع نطاقًا مما يبدو عليه. وبينما لا يزال التطور في موقف كوريا الجنوبية على الصعيد الدولي مبهمًا، فإن تكيف دول مجلس التعاون الخليجي مع التيارات الإقليمية المتغيرة يمثل قوة تاريخية.

إن تأثير هذه الأزمة يتخطى السياسة المحلية ويشكل خطرًا جيوسياسيًا على علاقة كوريا الجنوبية بالولايات المتحدة واليابان. إن الجهود الإقليمية التي تبذلها واشنطن لجمع الحلفاء ضد الصين باتت معرضة لخطر الانهيار، ومن المرجح أن يتضرر تقارب سيول وطوكيو - أحد أهم إنجازات الرئيس يون – في ظل القيادة الجديدة. وعلى الرغم من هذه الزعزعة، فمن المتوقع أن تظل علاقات كوريا الجنوبية مع دول مجلس التعاون الخليجي مستقرة نسبيًا. وقد شكلت هذه العلاقات طويلة الأمد من التعاون في مجال الطاقة والبنية التحتية وتبادل التكنولوجيا، مستوى عالي من الاتساع المؤسسي والتعويل الاقتصادي الذي يحد من الاضطرابات السياسية. 

ولقد أصبحت دول مجلس التعاون الخليجي شريكًا استراتيجيًا لكوريا الجنوبية - وكونوا علاقات أعمق بكثير مما يتصوره الكثيرون. وعلى الرغم من أن الأزمة الحالية في سول قد تثير بعض الترددات في الصفقات والمشاريع الجديدة على المدى القصير، إلا أنه من المهم جدًا مراعاة ما حققته هذه العلاقات، فما بدأ كصفقة بسيطة للنفط مقابل قدر من المال في السبعينات، تطور إلى شيء أكثر من ذلك بكثير. فاليوم، تقوم الشركات الكورية ببناء محطات نووية في الإمارات العربية المتحدة، ويأسر الترفيه الكوري الجمهور الخليجي، وتعمل المشاريع البحثية المشتركة على تطوير مشاريع مثل تكنولوجيا الهيدروجين ومشاريع تشييد المدن الذكية. وأسست هذه الشراكات على مدى عقود سعي فيها لبناء الثقة والتفاهم المشترك، إذ يستغرق ترسيخ هذه الصفات على أرض الوقع وقتًا طويلًا. وقد يجادل المرء بأن هذا النوع من العلاقات بمقدوره مجابهة الظروف السياسية المضطربة وغير المتوقعة.

وفي السنوات الأخيرة، طورت سيول مبادرات استراتيجية مدروسة توافق مع مصالح كل دولة على حدة، فعلى سبيل المثال: عقدت كوريا اتفاق مستقبلي مسبق مع المملكة العربية السعودية في مجال الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا (2022)؛ وكونت شراكات استراتيجية مع الإمارات العربية المتحدة على وجه الخصوص (2018)، ووطدت العلاقات الثنائية مع قطر وحولتها لشراكات استراتيجية شاملة (2023). تتيح لنا هذه الروابط رؤية العلاقات من منظور استراتيجي مدعوم بعلاقات سياسية واقتصادية واسعة النطاق. وفي هذا السياق، بلغ حجم التبادل التجاري بين كوريا الجنوبية ودول مجلس التعاون الخليجي 91.4 مليار دولار أمريكي في عام 2023، واستثمار 10.5 مليار دولار أمريكي إضافي لتمويل مشاريع الإنشاءات والهندسة الكبرى. كما ويعكس توقيع اتفاقية التجارة الحرة في ديسمبر 2023، التزام الطرفان المتزايد بتوثيق تعاونهما. وإجمالًا، تضمن الشراكات الاستراتيجية الحفاظ على قوة السياسات الداخلية والعلاقات بين الطرفين.  

وعلى الرغم من أن العلاقات بين كوريا الجنوبية ودول مجلس التعاون الخليجي مبنية على أسس قوية، إلا أنه يجب الإقرار بأن رفض الجمعية الوطنية الموافقة على الحكم العسكري، كشف في الوقت نفسه عن نقاط ضعف عميقة تجذرت في الآلية السياسية لسول. فمنذ سيادة الحكم الديمقراطي، جمعت القوة الرئاسية ما بين السلطة المطلقة والنزعة الهشة، مما تسبب بتناقضات كبيرة، وكثيرًا ما كان يتسبب ذلك بالعديد من الفضائح والانسحاب المبكر من المنصب الرئاسي. ومع ذلك، لم يردع هذا النهج من التقلبات الداخلية دول مجلس التعاون الخليجي في السنوات المنصرمة، بل وعلى العكس، أظهر شركاء كوريا الجنوبية في منطقة الخليج اتزان ومرونة عالية في التعامل مع خلافات سول الداخلية، ولم يسمحوا لها بتعطيل أهدافهم الاقتصادية والإستراتيجية الأساسية.

إن آثار هذه الأزمة السياسية باتت جلية بالفعل على الصعيد المحلي في كوريا الجنوبية، فقد تأثر الوون الكوري وسوق الأسهم بشكل كبير في أعقاب الأحداث الأخيرة. فالاستقرار السياسي أمر ضروري لدعم الاقتصاد، وقيمة السندات السيادية، وجذب الاستثمار الأجنبي. ومع ذلك، يجب التمعن فيما يحدث في سيول بنطاق أوسع بكثير. فمنذ سنوات، تعمل دول مجلس التعاون الخليجي على تقليل اعتمادها على الهيدروكربونات، والتحول نحو بناء المدن الذكية، والنظم البيئية الرقمية، ومصادر الطاقة المتجددة. وتتمتع كوريا الجنوبية بخبرة في هذه القطاعات المتقدمة التي ترنو إليها الرؤى الوطنية الخليجية، مثل رؤية السعودية 2030، ورؤية قطر الوطنية 2030، ومئوية الإمارات العربية المتحدة 2071. وبعبارة أخرى، يتقاسم الجانبان غايات طويلة الأمد، قادرة على تحدي الشبهات قصيرة الأمد.

 وعلى نطاق أوسع، فإن الشراكة بين دول مجلس التعاون الخليجي وكوريا الجنوبية تصنف ضمن شبكة متطورة من العلاقات الخليجية والشرق آسيوية. ولقد نجحت كوريا الجنوبية في ترسيخ مكانة مميزة في مجال نقل التكنولوجيا وتطوير البنية الأساسية على وجه التحديد، رغم وجود الصين، الشريك التجاري الأكبر للمنطقة، وحضور اليابان القوي. ويتناسب هذا التنوع مع أهداف دول مجلس التعاون الخليجي المتمثلة في توزيع التزاماتها الدولية بشكل أكثر توازن، والحد من الاعتماد على أي قوة خارجية واحدة. ويشير هذا التنوع الاستراتيجي إلى أنه من غير المرجح أن تتخلى دول مجلس التعاون الخليجي عن علاقتها الوطيدة مع سيول لمجرد تحد سياسي عابر كهذا.

وأما على الأمد القريب، فمن البديهي أن يكون هناك قدر من الحذر من قبل دول مجلس التعاون الخليجي وغيرها. فبناء على وضع القطاع، سيرغب المستثمرون في أن يعم الوضوح على بعض الأمور المتعلقة بالاستقرار السياسي في سيول قبل البدء بمشاريع كبرى جديدة أو مشاريع ثنائية. وأما بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، فإن طبيعة هذه العلاقات الوطيدة والراسخة يشكل حاجزًا منيعًا ضد ما قد يصف على أنه عاصفة سياسية عابرة. ونتيجة لهذه العلاقات الاستراتيجية، فمن المتوقع أن يواصل الشركاء الخليجيون مشاركتهم في سول.

وبشكل عام، وبينما يكشف الستار عن هذه الأزمة، فمن المرجح أن تكون التداعيات العامة محدودة وأكثر تركيزًا. وفي حالة حدوث تغيير في السلطة، فإن أهم التداعيات ستطرأ على العلاقات الاستراتيجية بين كوريا الجنوبية مع اليابان والولايات المتحدة، وعلى آلية تصرف سول في نطاقها الجيوسياسي. ومن هذا المنطلق، نتوقع أن تظل العلاقات بين كوريا الجنوبية ودول مجلس التعاون الخليجي مستقرة، مع استمرار التطور الإيجابي والفعلي، لضمان المستقبل المشترك والازدهار المشترك الذي يطمح إليه الجانبان.

* الدكتور ستيفن رايت، أستاذ مشارك وعميد مشارك لشؤون الطلاب بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة حمد بن خليفة.

* تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفها، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.