عكف الأطباء والعلماء لفترة طويلة على دراسة الحالات الوراثية والجينات، وذلك في محاولة لفهم الأمراض المعقدة والتوصل إلى طرق لعلاجها. ورغم تحقيق العلوم الطبية لنجاحات كبيرة في علاج الأمراض والتخفيف من تفاقمها في العديد من الحالات، فإنه لا تزال هناك جوانب مبهمة في هذا الصدد حتى الآن. فعلى سبيل المثال، يتناول بعض الناس حمية غذائية صحية، ويواظبون على أداء التمارين الرياضية طوال حياتهم، ويخضعون لفحوصات طبية دورية، ولكنهم يموتون بسبب إصابتهم بالسكتة القلبية في سن الأربعين، في حين يمتنع أشخاص آخرون عن أداء التمارين الرياضية، ويتناولون أطعمة غير صحية، ويدخنون، ورغم ذلك يعيشون لفترة قد تصل إلى 100 عام! فما هو السبب وراء ذلك؟
لفهم هذا الأمر، يعكف الباحثون على دراسة الجينات البشرية، وتفاعلات تلك الجينات مع بعضها البعض ومع البيئة. وتعرف هذا الدراسة باسم علم الجينوم، حيث تساعد الباحثين على فهم أسباب تعرض بعض الناس للمرض بفعل العوامل البيئية، والعدوى وسلوكيات نمط الحياة، وأسباب عدم تعرض أشخاص آخرين لذلك.
وفي حين يتطابق البشر في تركيبتهم الجينية بنسبة 99.9 بالمائة، إلّا أن هذا الاختلاف الطفيف المتبقي البالغ نسبته 0.1 بالمائة هو ما يميزنا عن بعضنا البعض، ويحمل في ثناياه الشيفرة السرية لحل اللغز حول أسباب حدوث بعض الأمراض. وتُعرف طريقة العلاج المتخصصة التي تستهدف تلك التركيبة الفريدة باسم الطب الدقيق أو الطب الشخصي، وهي طريقة بات أخصائيو الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم يستخدمونها الآن.
وفي هذا الصدد، يقول الدكتور عمر البغا، الباحث الرئيسي بمعهد قطر لبحوث الطب الحيوي: "لا يزال الطب الشخصي في قطر والعالم العربي في مراحله الأولى، لأنه يرتكز على التركيبة الوراثية. وما نعرفه في الغرب لا ينعكس دائمًا على هذا الجزء من العالم لأن تركيبتنا الوراثية مختلفة قليلًا. ويتعين علينا القيام بدراساتنا الخاصة للبدء في فهم التركيبة الوراثية لسكاننا بهدف معرفة كافْة أنواع المتغيرات الطبيعية منها وتلك المرتبطة بالاستجابة للأدوية، بالإضافة إلى المتغيرات المتعلّقة بالمرض مثل الانتشار المرتفع لمرض السكري."
وكان الدكتور البغا من بين المتحدثين في المنتدى السنوي الرابع لعلم الجينوم الوظيفي 2018، الذي نظّمه مركز سدرة للطب. وكان قد تحدث خلال اليوم الأول من المنتدى عن موضوع " البنية الوراثية للصحة والسمات المرتبطة بالأمراض لدى سكان دولة قطر"، وسلط الضوء على تأثير التغيرات الوراثية الشائعة على الصحة والسمات المرتبطة بالأمراض، بالإضافة إلى التقدم الذي حققته دولة قطر في مجال الاستفادة من مبادئ الطب الدقيق.
وقال الدكتور البغا: "إن المشروع الذي أعمل عليه يتمثّل في فهم مساهمة التركيبة الوراثية في صحة الفرد والسمات المرتبطة بالأمراض. وأعني بتلك السمات أي شئ يمكن للطبيب قياسه سريريًا، حيث يدخل ضغط الدم والطول ووزن الجسم ضمن تلك السمات. وتعكس التركيبة الوراثية جميع تلك السمات، التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا للغاية بالأمراض. ونحن نعلم أن ضغط الدم يرتبط ارتباطًا قويًا بأمراض القلب والأوعية الدموية. كما أن ارتفاع ضغط الدم يعدّ من أهم عوامل الإصابة بمرض السكري. كذلك فإنه مع ارتفاع وزن الجسم عن حد معين، ترتفع احتمالات تعرض الفرد للأمراض المرتبطة بالسمنة مثل السكري، وأمراض القلب والأوعية الدموية، وغيرها من الأمراض."
وقد عُرِضَتْ سلسلة البيانات التي جُمِعَتْ من 12,000 شخص، في إطار برنامج قطر جينوم، خلال مؤتمر علم الجينوم. وقَدَّم التحليل فهمًا أكثر عمقًا للجينوم القطري والعربي، وهو ما يمهد الطريق لمقدمي خدمات الرعاية الصحية في المنطقة لتوفير خدمات الطب الدقيق في نهاية المطاف.
وقال الدكتور إدوارد ستونكيل، عميد كلية العلوم الصحية والحيوية بجامعة حمد بن خليفة: "تتميز منطقة الشرق الأوسط بتفردها من حيث امتلاكها لخصائص وراثية معينة، وربما تمتلك كل دولة في المنطقة تركيبة وراثية مختلفة عن الأخرى، وبالتالي قد يسمح التعرف على تلك التركيبات الوراثية بتطوير طرق علاج خاصة ودقيقة للمجموعات السكانية المختلفة."
وأضاف: "نحن متشابهون جدًا، ولكننا مختلفون فيما يتعلق بتركيبتنا الوراثية. ويمكن أن يكون لدينا طفرات وراثية معينة وجينات محددة قد لا تكون موجودة لدى شخص آخر، وهو ما يؤدي إلى تطور أمراض محددة، وبالتالي فإننا نحتاج إلى فهم ذلك لتحديد أفضل طرق العلاج. وفي الوقت الذي يمكن أن تمتلك فيه المجموعات السكانية نفس الأمراض، ولكننا قد نكتشف أن التركيبة الوراثية أو الجينية لإحدى المجموعات تختلف عن نظيراتها لدى مجموعة أخرى، وهو ما قد يؤدي إلى توظيف نوع مختلف من الطب الشخصي في التعامل مع هاتين المجموعتين؛ وهذه هي الجوانب التي نستخدم فيها الطب الشخصي أو الطب الدقيق بالفعل، عندما نوظفهما في التعامل مع مجموعة سكانية محددة، وهو ما يفسر أهمية الطب الشخصي والطب الدقيق لدولة قطر."
ونظرًا لوجود عدد محدود للغاية من الأبحاث التي استهدفت فهم التركيبة الوراثية للمنطقة العربية، فإن العمل المستمر في مجال علم الجينوم والطب الدقيق بدولة قطر يعزز من وضعيتها الفريدة والمتميزة في هذا المجال.
ويذكر الموقع الإلكتروني لبرنامج قطر جينوم أن البرنامج يُعد "مشروعًا طموحًا يرتكز على تحليل التسلسل الجينومي لسكان دولة قطر، ويهدف إلى تعزيز مكانة دولة قطر ضمن قائمة الدول الرائدة في مجال تنفيذ برامج الطب الدقيق .وفي ظل قلة عدد السكان، وتطبيق نظام مركزي للرعاية الصحية، وتوافر موارد طبية وصحية رائعة، تتمتع دولة قطر بوضع جيد يمكنها من أن تصبح دولة رائدة عالميًا في مجال تطبيق مبادئ الطب الدقيق."
وتدعم كلية العلوم الصحية والحيوية هذه الرؤية الطموحة بتقديمها لأربعة برامج أكاديمية مختلفة، من بينها برنامجيَن للماجستير وآخرَين للدكتوراه – في العلوم البيولوجية والطبية الحيوية، وفي علم الجينوم والطب الدقيق.
وقال الدكتور ستونكيل: "نحن من أوائل المؤسسات الأكاديمية التي طرحت هذه البرامج في قطر، وربما في المنطقة أيضًا. وتتسق برامجنا بشكل وثيق مع العمل الذي يجري حاليًا في قطر بيوبنك وبرنامج قطر جينوم. ولهذا السبب، فإننا على تواصل دائم فيما يتعلق بالجهود التي تبذلها دولة قطر في هذه المبادرة. كما أننا نحاول تدريب الجيل المقبل من العلماء للاستفادة من كافة المعلومات الناتجة عن هذه المبادرة، لكي يتمكنوا من استخدامها بطريقة فعالة."
ويتعاون باحثو جامعة حمد بن خليفة وعلماؤها مع زملائهم من الخبراء في برنامج قطر جينوم، للعمل على تلبية البرنامج للأهداف الواردة في رؤية قطر الوطنية 2030، التي تسعى إلى توفير مستقبل مستدام للمواطنين القطريين.