
ماذا لو تعدى الإحساس المتزايد بالمسؤولية الاجتماعية الذي يغمر المسلمين في شهر رمضان المبارك حدود العبادات الشخصية وطال الاهتمام الجماعي بالبيئة؟ يتبنى مركز ذو المنارتين هذه الفكرة عن طريق إطلاق مبادرة الإفطار المستدام بلا نفايات أو إهدار للطعام، ويستضيف مبنى ذو المنارتين أكثر من 2000 ضيف كل مساء دون أي إهدار للموارد.
وبالرغم من كون رمضان المبارك شهر يحث على الاعتدال واليقظة، إلا أن موائد الإفطار غالبًا ما تسفر عن كميات كبيرة من النفايات، ولكن تغلبت مبادرة مركز ذو المنارتين على هذه العادة من خلال تصميم وجبات إفطار رمضانية تحارب الإسراف وترتكز على إعادة تدوير مخلفات الطعام والاستفادة منها، وتكمن الحكمة من وراء هذه المبادرة القيمة في تخصيص مساحة لا يطغى فيها الكرم على الاستدامة.
وتعليقًا على المبادرة، قال السيد واصف علي خان، مدير مشروع تحويل الأعمال في مركز ذو المنارتين: "ألهمنا التركيز الاستراتيجي لمؤسسة قطر على خلق هذه المبادرة للتركيز على الاستدامة والعمل التطوعي، ومن خلال تطبيق هذه المبادئ والأفكار في وجبات الإفطار الرمضانية بشكل يتوافق مع ثقافة قطر وتراثها، نهدف إلى تنظيم فعالية تعزز روح التعاون المجتمعي والمسؤولية البيئية على حد سواء".
ويتطلب تحقيق إفطار خالٍ من النفايات تخطيطًا دقيقًا، إذ تبدأ العملية بإعداد الوجبات بكفاءة مع ضمان تحضيرها بكميات مناسبة لمنع أي إهدار للطعام. ويتم استخدام أدوات يمكن إعادة تدويرها عوضًا عن استخدام الأدوات البلاستيكية التي تستخدم لمرة واحدة فقط. وتوجّه محطات النفايات بالمبنى الضيوف لفرز النفايات العضوية والقابلة لإعادة التدوير، كما يلعب المتطوعون دوراً محورياً في توزيع الوجبات، وإدارة الحشود، والإشراف على التخلص الصحيح من النفايات.
وأضاف السيد واصف علي خان: "تتطلب استضافة إفطار خالٍ من النفايات تخطيطًا وتنسيقًا دقيقًا، إذ يتعين أولاً أن نعمل عن قرب مع الموردين للتأكد من أن جميع الأدوات المستخدمة قابلة لإعادة التدوير بالكامل؛ كما نقوم أيضاً بتوظيف وتدريب ما بين 100 و150 متطوعًا ليساهموا في تسهيل العمليات اللوجستية. وفضلًا عن كل ما سبق، قمنا بتصميم المكان - موقف السيارات بمبنى ذو المنارتين - ليكون عمليًا وفعالًا من أجل توفير تجربة سلسة ومستدامة".
ومنذ انطلاقها، نمت المبادرة من حيث الحجم والكفاءة؛ ففي كل عام، تساهم الاستراتيجيات الجديدة في تحسين إدارة النفايات وتعزيز المشاركة المجتمعية، ويعكس الحضور الكبير الطلب على مثل هذه التجمعات والمبادرات وتأثير السمعة الطيبة وحسن التنظيم في جذب الحشود.
وأردف السيد علي خان: "لقد حرصنا في كل عام على تحسين البرنامج وتعزيز فعاليته، كما ركزنا على زيادة كمية السماد العضوي الناتج، وتقليل النفايات، وزيادة مبادرات التوعية من خلال تقديم برامج تعليمية بعدة لغات؛ وعلاوة على ذلك، قمنا بتوسيع خيمتنا لاستيعاب أكبر عدد من الحضور، الأمر الذي أدى لزيادة القدرة الاستيعابية لاستضافة ما يقارب 2500 شخصًا يوميًا".
ويرتبط المشروع ارتباطًا وثيقًا بالتزام مؤسسة قطر بالاستدامة، فمن خلال طرق الحصر المنظم للنفايات، يتم نقل جميع بقايا الطعام إلى مرافق التسميد العضوي التابعة لمؤسسة قطر، مما يساهم في تعزيز المبادرات الزراعية في جميع أنحاء المؤسسة، ليضمن نظام الحلقة المغلقة هذا أن تمتد روح العطاء في رمضان لما هو أبعد من مجرد خيمة إفطار رمضانية.
وأضاف السيد واصف علي خان، قائلًا: "يجسد الإفطار الخالي من النفايات التزام مؤسسة قطر بالاستدامة بعدة طرق، حيث يتم فصل جميع نفايات الإفطار والتخلص منها بعناية فائقة، وتحويلها لأسمدة عضوية مفيدة".
وفضلًا عن إدارة النفايات، تعمل هذه المبادرة كمنصة لرفع مستوى الوعي حول الممارسات المستدامة، والتي يُعتبر الكثير منها جزءًا لا يتجزأ من التقاليد الإسلامية.

التطوع والمشاركة المجتمعية
إنه من الضروري جدًا توظيف المتطوعين لضمان نجاح الفعالية، فعملهم يضمن سلاسة العمليات وتعزز مشاركتهم الشعور بالوحدة والتعاضد لتحقيق هدف مشترك.
والجدير بالذكر أن العديد من المتطوعين يسعون للمشاركة في تنظيم هذه المبادرة كل عام، كونهم سعداء بما حققوا من طموح شخصي، فضلًا عن شعورهم بالرضا عن مساهمتهم في مبادرة هادفة، ولكن، فإن استقطاب وإدارة المتطوعين لفعالية تستمر لمدة شهر يتطلب تفانيًا وجهداً كبيرًا.
وأشار محمد شهران، أحد المسؤولين عن المتطوعين في خيمة إفطار العام الماضي، إلى سرّ الحفاظ على تكاتف المتطوعين وبث الحماس فيهم لمواصلة سعيهم الدؤوب دول كلل، قائلًا:"جاء المتطوعون والمتبرعون من كل حدب وصوب ليكونوا جزءًا من عمل مجزٍ في رمضان ابتغاء مرضاة الله تعالى".
وشاركت فرح صادق، إحدى المتطوعات في العام الماضي، مجددًا في المبادرة قائلة: "عندما علمت عن خيمة الإفطار الرمضانية، وجدت أنها فرصة رائعة لكي أساهم في تنمية وتطوير مجتمعنا في مبنى ذو المنارتين، فبالنسبة لي كان قرار المشاركة في خيمة الإفطار قرارًا روحيًا عميقًا، "وحثني عليه حديث النبي صل الله عليه وسلم: (مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ) (جامع الترمذي، 807). وقال صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله، وأيُّ دافع أعظم من أن تعلم أن الله اختارك أن تكون وسيلة لتفطير الصائمين)، وأرى أن التطوع فرصة سانحة لتربية الأجيال القادمة، حيث إنها فرصة تعلم تطبيقية، وهي وسيلة قوية لغرس الإيمان في قلوب شبابنا وأطفالنا، إذ لا يستمع الأطفال إلى ما تقوله فحسب، بل يراقبون ما تفعله، لذا فإن هذه فرصة لنطبق تعاليم ديننا الحنيف بطريقة حقيقية وهادفة".
بالنسبة للكثير من النساء، فإن خيمة الإفطار هي مساحة لتواصل واجتماع العديد من النساء من مختلف الثقافات والفئات العمرية للمشاركة في تجربة شيقة وهادفة لتحقيق غاية مشتركة.
وأردفت فرح: "هناك شيء روحي عميق في اجتماع النساء معًا لخدمة بعضهن البعض - إن رؤية النساء، سواء كن أمهات، أو فتيات، أو طالبات، أو مسنات متحدات للقيام بشيء بسيط، ولكنه ذو مغزى كبير، مثل تناول الطعام جنبًا إلى جنب، يبعث الدفء وينشر الابتسامات المتبادلة، كما يعكس عن روابط الأخوة الخفية التي تشكلت عند تمرير الأطباق وصب الماء؛ عندها يكون بمقدورك أن تشعر بجوهر الأمة، وإدراك أن العلاقة المقدسة التي تربطنا معًا لا تكمن في القرابة بالدم، بل في قوة الإيمان".
إن أحد جوانب العمل التطوعي الأكثر قيمة هو مساهمته الفعالة في تعزيز النمو الشخصي، إذ يتولى المتطوعون أدواراً قيادية، ويتعلمون سبل إدارة المواقف في بيئة يسودها الضغط والتوتر، فضلًا عن تطوير مهارات العمل الجماعي. ويتحمل العديد من المتطوعين مسؤوليات كبيرة تشمل تنسيق الفرق وإدارة عمليات واسعة النطاق.
وفي هذا الصدد، يقول محمد شهران: "إن القيادة هي شيء يكتسبه المرء بشكل أساسي عند المشاركة في هذه المبادرة، إذ يتشاطر المتطوعون حس المسؤولية وروح التكاتف والانسجام المجتمعي كونهم جزءًا من هذا المسعى السامي. ولقد ساهم العمل الجماعي في إنجاح هذه الفعالية بتوفيق من الله".
وبالنسبة لكل متردد في التطوع والمساهمة في تنظيم هذه المبادرة، فلدى "فرح صادق" نصيحة تريد إبدائها لهم، فتقول: "لا تدع هذه الفرصة تفوتك، إذا وضع الله هذه الفرصة في طريقك، فاستجب لها بنية صادقة، ففي بعض الأحيان نتردد لأننا نتساءل: هل سيُحدث ذلك فرقًا حقًا؟ لكن النبي ﷺ قال لنا: (لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) (صحيح مسلم، 2626). فتخيلوا أجر إطعام الصائمين، وإدخال السرور في نفوسهم في رمضان، فحتى أصغر جهد يمكن أن يكون له أجر عظيم عند الله؛ وأؤكد على أن التطوع ليس مجرد عطاء، نحن نظن أننا نعطي، ولكننا في الحقيقة نتلقى - نتلقى محبة الأخوة وصلة الرحم في سبيل الله، وننال الأجر من الله ونتقرب إليه سبحانه وتعالى".
نظرة إلى المستقبل
يعكس إفطار مركز ذو المنارتين الخالي من النفايات كيف يمكن للتجمعات الرمضانية التقليدية أن تتبنى الاستدامة دون المساس بحُسن الضيافة والجود، فمن خلال الإدارة الفعَّالة للنفايات، والمشاركة المجتمعية، والتفاني الكبير من قبل المتطوعين، يجسد هذا المشروع نموذجًا للمسؤولية في الحفاظ على الموارد. ومع استمراره في التوسع، فإنه يمثل مثالًا يحتذى به في دمج مبادئ الاستدامة ضمن التقاليد الثقافية والدينية، سواء محليًا أو عالميًا.
وفي ذلك، يقول السيد واصف علي خان: "نحن ممتنون جدًا للدعم الهائل الذي حظي به هذا المشروع، ونشكر المتطوعين الذين يكرسون وقتهم طوال أيام شهر رمضان الثلاثين لخدمة المجتمع. إن مركز ذو المنارتين يشعر بالفخر للمساهمة في برنامج لاقى احتفاء إيجابي، ونتطلع إلى مواصلة هذا العمل الهادف في السنوات القادمة".
وقد تلهم هذه المبادرة مؤسسات داخل قطر وخارجها لبذل جهودًا مماثلة، لإثبات أن العمل الجماعي يمكن أن يُحوّل روح العطاء في رمضان إلى تأثير مستدام.
شارك في كتابة هذا المقال:
عبد الكريم كوشكوف: طالب ماجستير في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة.
واصف علي خان: مدير مشروع تحويل الأعمال في مركز ذو المنارتين بجامعة حمد بن خليفة.
فرح صادق ومحمد شهران إلياس: عضوان في فريق مركز ذو المنارتين بجامعة حمد بن خليفة.
* تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفيه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكتاب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.