الفتاوى الرقمية والتحول المُستمر في المرجعية الدينية | جامعة حمد بن خليفة

د. ألكسندر كايرو أستاذ مساعد، كلية الدراسات الإسلامية - جامعة حمد بن خليفة

الفتاوى الرقمية والتحول المُستمر في المرجعية الدينية

منذ ظهوره في تسعينيات القرن الماضي، أصبح الإنترنت ركيزة محورية في تحديد الهوية الاجتماعية ومعالم الحياة في المجتمعات ذات الأقليات المُسلمة، وبعد ذلك بفترة وجيزة لحقت بها المجتمعات ذات الأغلبية المُسلمة. وقد بشَّر علماء الاجتماع بهذا التطوّر باعتباره صانعًا لما يُعرف "بالمحيط الجديد لعوام المسلمين"، وشرعوا بدراسة تأثيراته على الهياكل القائمة للمرجعية الدينية. وتعد الإرشادات والتوجيهات الأخلاقية الإسلامية من بين أهم المزايا التي وفرها الإنترنت. وأصبح المسلمون الذين يقطنون أماكن بعيدة عن المؤسسات الدينية التقليدية كالمساجد والمدارس قادرين على طلب الفتوى بكل سهولة ومن جميع أنحاء العالم، فيما يتعلق بأفعالهم السابقة أو خططهم المستقبلية. وربما يكون أكثر المنتفعين بهذه الفتاوى المجموعات المُهمّشة في السابق، بمن فيهم النساء، نظرًا لمحدودية قدرتهن على التواصل مع المرجعيات الدينية من الرجال، أو من يعيشون في أماكن نائية بعيدة عن موطن تلك المؤسسات.

وساهم التطور الذي شهده الإنترنت في العالم العربي خلال القرن الحادي والعشرين في ظهور مقدمي الفتاوى الرقمية عبر الإنترنت، وانتشار هذا النوع من الفتاوى الرقمية. وعلى الرغم من تشكك المرجعيات الدينية في البداية من هذه الوسيلة، وبطء التكيف معها، إلا أن معظم مواقع الفتوى الشهيرة على الإنترنت في الوقت الحالي تتعلق بعلماء مسلمين ومؤسسات دينية معترف بها وجهات تابعة للدولة. وبينما ساهم ذلك في الحد من الانقسامات الدينية والفُرّقة التي توقظها تقنيات الإعلام الجديدة، فقد ساهمت أيضًا في خلق ظروف ومعايير جديدة في صالح أداء المرجعيات الدينية.

ومن خلال الإنترنت، يُبشر الإنسان المسلم "بالسعادة الأبدية" (اقتباس شعار موقع إسلام ويب): وهي حياة أخلاقية نحياها وفقًا للأحكام الدينية في عالم يميل بشكل متزايد نحو التجرّد والعلمانية. ويتيح الإنترنت لعوام المسلمين إمكانية للبقاء على اتصال بالمرجعيات الإسلامية، والتأقلم مع عوارض الحياة المُعاصرة، وما يكتنفها من جوانب لا يمكن التنبؤ بها. كما تتيح الطبيعة العالمية التي تتسم بها الفتاوى الرقمية للأفراد فرصة لتجنب عوائق الخطاب الديني المحلي واجتياز حدوده. كما يمنح الإنترنت للأطراف الأضعف حجة ضمن سياق الخلاف إمكانية للحصول على رأي موثوق يمكن استخدامه كدليل لتعزيز اهتمامات المرء والمطالبة بحقوقه. وخلصت من بحثي 

إلى أن الزوجة التي تجد نفسها في مواجهة صعوبات أسرية، أو العامل الذي يعاني مع رئيسه المتسلِّط، أو المواطن الذي يعاني من ظلم سلطان الدولة عليه، هم أكثر من يلجؤون للتواصل مع مواقع الفتوى (عبر الإنترنت أو دونه)، وليس العكس. ويأمل المستفتون في إقناع جهة الإفتاء بشرعية موقفهم، ثم يستندون للجوانب الأخلاقية ضمن التقاليد الإسلامية المُشتركة لتغيير الوضع الراهن.

وعلى الرغم من تراجع الأحكام الشرعية في النظم القانونية المتعددة في الدول الإسلامية المُعاصرة، يُمكن ملاحظة استمرار قناعة المسلمين وتمسكهم بها على نطاق واسع، من خلال سعي الأفراد للتواصل مع مصادر الفتوى السيبرانية، على الرغم من تكبدهم المؤكد لخسارة أكبر مقارنة بالمكاسب. وفي هذه الحالة، لا يسعى المُستفتي إلى إحقاق الحق، لكنه يستفسر عن عاقبة أعماله في الدار الآخرة. كما تتناول الفتاوى بوفرة، وبصفة خاصة، مخاوف المرء بحق شرعية كسبهوعمله. وتُبرز الفتاوى التي لا تُحصى بشأن هذه القضايا عبر الإنترنت حقيقة تؤكد تأثير الأنظمة الاقتصادية الحديثة على تدين المسلم وحياته الأخلاقية.

ويظل عوام المسلمين، عند تواصلهم مع المرجعيات الدينية عبر الوسائل الرقمية، على علم بالتفاوت في آراء العلماء وتنوعها. وقد استطاع البعض تطوير مهارات معرفية رقمية، تمكنهم من التمييز بين منصات الإنترنت المُختلفة، واستهداف توجهات دينية محددة. وعلى العموم، يفرض الإنترنت على جميع المسلمين مجموعة جديدة من المسؤوليات. حيث ساهم ذلك في إعادة صياغة الدين باعتباره مسألة اختيار، وإجبار الأفراد على الاختيار بين الآراء المتنافسة. ولا شك أن هذا يشكل عبئًا ومسؤولية في ظل عالم من المعرفة المُتخصصة والتعقيدات الأخلاقية. 

ويتطلب الأمر الاجتهاد الدائم لتقويم الفطرة السليمة، ونقاء القلب الذي أشار إليه النبي مُحمد صلى الله عليه وسلم، عندما طالب المؤمنين باستفتاء قلوبهم حتى وإن أفتوهم الناس، حينما قال: "استفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك".

الفرص:

بالنسبة للمفتين عبر الإنترنت، يوفر الإنترنت لهم العديد من الإمكانيات الجديدة، إلى جانب التحديات غير المسبوقة. حيث يتيح الإنترنت للمفتين فرصة الوصول إلى أعمق طبقات النسيج الاجتماعي، وتقويم سلوكيات المسلمين بمختلف توجهاتهم، والحفاظ على تمسكهم بالقيم الدينية في ظل التغيرات الاجتماعية والانتقال نحو الحداثة. كما يتيح الإنترنت، من خلال محركات البحث والتنسيق، للمفتين في بعض الأحيان، القدرة على توحيد الفتاوى والتقريب بين مختلف الآراء.

تتضمن الفتوى ردًّا محددًا على مسألة أحد الأفراد، وكما هو معلوم من التقاليد الدينية، فإن الفتوى تختلف باختلاف الزمان والمكان والظروف والمقاصد والسنن البشرية. وقد أعد العلماء منهجية مُعقدة تضمن تحقيق المرونة وتأمين المصالح والمنفعة، والحفاظ على سلامة الفطرة. كما أتاح الإنترنت، شأنه شأن المطبوعات فيما سبق، فرصة لنشر الفتاوى على العامة، وتمكين المفتين من مخاطبة جموع المجتمع، وتوعية شعوب بأكملها، والمشاركة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمعات الإسلامية. وقد عكف المفتون، من مُختلف أنحاء العالم، على انتهاز هذه الفرصة، متأثرين – ربما – بالفهم الحديث للقوانين كأداة للتحول الاجتماعي، عوضًا عن كونها أداة للحفاظ على الوضع القائم.

التحديات:

يسعى المسلمون في وقتنا الحالي للتواصل مع المفتين عبر الإنترنت، بحثًا عمّا يتجاوز مجرد طلبهم للحكم الشرعي. حيث يعرضون على المفتين مجموعة من الطلبات والتوقعات التي قد لا يكون المفتي مستعدًّا لها أو مدربًا على مناقشتها. فعلى موقع إسلام ويب، المنصة الإلكترونية التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في قطر، الذي يضم حاليا أكبر مكتبة للفتوى على الإنترنت، يتوقع المستفتون من المفتين أن يتصرفوا بصفتهم فقهاء في الدين، بل ومرشدين روحانيين وخبراء نفسيين ومستشاري زواج ومستشارين قانونيين وماليين، ووسطاء دوليين، ومدافعين عن العادات والتقاليد الإسلامية. بل ويطالب بعض المسلمين في قطر، المفتين عند تواصلهم معهم بتمويل الزواج، وتقديم النصح والإرشاد الوظيفي، بالإضافة إلى الرقية وتفسير الأحلام. لذا يتعين على المفتين تحديد مجال تخصصهم وعرض نطاق خبراتهم بوضوح تام وعناية، وإحالة السائل إلى المتخصصين في المجالات الأخرى عند الحاجة لذلك، حتى مع استمرار التزامهم بإبراز مدى ارتباط المسألة بأحكام الشريعة الإسلامية في الزمن الحاضر.

وقد تؤدي الاستشارات عبر الإنترنت إلى أن يواجه المفتون بعض الممارسات الاجتماعية المختلفة تمامًا عمّا يشهدونه في بيئتهم، وخصوصًا عندما يتعاملون على نطاق يتجاوز الحدود الوطنية. تشكل المسافة التي تفصل المُستفتي عن المُفتي على الإنترنت عائقًا إضافياً أمام قدرة الأخير على استبيان السياق العام للسؤال. حيث يكاد يكون من المستحيل أن يستوعب المُفتي الجوانب النفسية للسائل لاستبيان دوافعه وتطلعاته عند التواصل عبر الإنترنت. ويتوقف اعتبار هذه العقبة كمشكلة كبيرة على مقدار الأهمية التي يوليها المفتي للمقاربة السياقية لإصدار الأحكام الشرعية. وفي ضوء الاستقطاب الحالي للرأي العام، والتفاوت الكبير في أنماط حياة المسلمين وتطلعاتهم، يُعاني المفتون عبر الإنترنت في التعرف على الحيل المُحتمل أن يضعها المستفتون في سياق تساؤلاتهم بهدف إيقاع المفتي في حرج.

وبناءً عليه، يوفّر الإنترنت باقة جديدة من المشكلات إلى جانب مجموعة من الفرص الواعدة. ولا شك أن قدرة العلماء والمفتين على دراسة واستكشاف تلك الآليات ستكون في صلب الصعوبات التي تواجه المرجعيات الدينية في القرن الحادي والعشرين.