تمثل أزمة التغذية العالمية تحديًا ذا وجهين، إذ تواجه الدول النامية مشاكل تتمثل في سوء التغذية ومرض القزامة، في حين تواجه المجتمعات الغنية ارتفاعًا في معدلات السمنة والإصابة بمرض السكري. وعلى الرغم من كل هذه المشاكل المتباينة، تم التوصل لحل مشترك ألا وهو مبادرات التغذية الوطنية الشاملة، التي تدمج عنصري الأمن الغذائي والتعليم.

فوفقًا لإحصاءات البنك الدولي، يمكن لسوء التغذية أن يقلل من إجمالي الإنتاج المحلي لبلد ما بنسبة تقارب الـ 11% سنويًا. وعلى خلاف ذلك، فإن كل دولار يتم استثماره في برامج التغذية يمكن أن يحقق عائدات تصل إلى 35 دولارًا، نظرًا لزيادة الإنتاجية، وخفض تكاليف الرعاية الصحية، ورفع الحصيلة التعليمية. كما تُعد برامج التغذية المدرسية ركيزة أساسية لاستراتيجيات الصحة العامة والتعليم في كافة أنحاء العالم، إذ يستفيد منها حاليًا 388 مليون طفل من 161 دولة. ولا تقتصر هذه المبادرات، التي تقدر بالمليارات سنوياً، على توفير الوجبات الغذائية فحسب، بل تعد أيضًا بمثابة استثمارات مستقبلية. وتوضح ثلاث ولايات على وجه التحديد، آليات نُهُج التغذية المدرسية المختلفة وقدراتها على إحداث تغييرات جذرية.
مبادرة حسنة من الجمهورية إندونيسية
في بداية هذا العام، أطلقت إندونيسيا مبادرة تطمح لتوفير وجبات غذائية متكاملة لـ 82.9 مليون شخص بحلول عام 2029. وتستهدف المبادرة مرض القزامة في مرحلة الطفولة، باعتباره أحد أبرز التحديات الحرجة التي تجابهها الدول النامية. ويؤثر مرض القزامة على ملايين الأطفال في إندونيسيا ويترتب عليه عواقب وخيمة طويلة المدى، فهو يؤثر على النمو المعرفي، والتحصيل العلمي، وإمكانية كسب القوت مستقبلًا.
وفي إطار التصدي لهذه المشكلة، يركّز برنامج جاكرتا في المقام الأول على أطفال المدارس والحوامل، نظرًا لأهمية التدخل المبكر في التصدي لمثل هذه التحديات، وسيتم ذلك من خلال التركيز على التغذية السلمية منذ الصغر؛ إذ تطمح إندونيسيا إلى حل عقدة سوء التغذية المتوارثة، وما يترتب عليها من آثار اجتماعية واقتصادية.
وعند أخذ العبء اللوجستي والاقتصادي بعين الاعتبار، فإنه لا يزال من الصعب الجزم بقدرة إندونيسيا على الاستمرار في دعم هذه المبادرة على المدى الطويل. كما سيعتمد نجاح هذه المبادرة إلى حد كبير، على إنشاء سلاسل توريد محلية متينة وتأمين مصادر تمويل ثابتة ومستقرة لتعزيز توفير التغذية الصحية، فضلًا عن التخطيط المحكم والالتزام المستمر لتحقيق الأهداف التي ترنو لها المبادرة.
النجاح المبهر لبرنامج "مشروع وجبة الظهيرة"
بدأ "مشروع وجبة الظهيرة" بجمهورية الهند في عام 1995، ويعرف البرنامج الآن باسم برنامج رئيس الوزراء الهندي للتغذية الشاملة، وهو أكبر برنامج للتغذية المدرسية في العالم. وقد أُسس البرنامج لتحقيق هدفين رئيسيين: الأول: مكافحة سوء التغذية والجوع المنتشر على نطاق واسع بين الأطفال في سن الدراسة، أما الثاني: فيرنو لتعزيز التحاق الطلاب بالمدارس ومواظبتهم على الحضور، وخاصة الأطفال من المجتمعات المحرومة. كما أصبح هذا البرنامج الذي يستفيد منه ما يقارب 118 مليون طفل في 1.12 مليون مدرسة، نموذجًا يُحتذى به في التصدي لسوء التغذية وتحسين التحصيل التعليمي.
إن لبرنامج رئيس الوزراء الهندي للتغذية الشاملة تأثيرًا متعدد الجوانب، فقد ساهم البرنامج في تحسين التحصيل التعليمي بشكل ملحوظ، من خلال زيادة معدل التحاق الطلاب بالمدارس وخفض معدلات التسيّب. كما وساهم البرنامج بشكل ملحوظ في تعزيز المساواة بين الجنسين، من خلال دعم التحاق الفتيات بالمدارس ومواظبتهن على الحضور. وقد أظهرت الطالبات المشاركات في البرنامج تحسنًا في حالتهن التغذوية وأدائهن الأكاديمي، الأمر الذي أدى إلى تحسن حصيلتهن الدراسية وزاد من مشاركتهن الصفية.
ويمتد تأثير البرنامج إلى خارج الفصول الدراسية وصولًا للمجتمع. فمن خلال التركيز على استخدام المنتجات المحلية، ساهم البرنامج في خلق فرصٍ اقتصاديةٍ قيّمة في المجتمع. كما أصبح أداة قوية لتمكين النساء، بإشراكهن في الجمعيات النسائية للمساعدات الذاتية في إعداد الوجبات الغذائية. وقد بات البرنامج بنهجه الشامل والمتكامل مثالًا تحتذي به الدول النامية التي تسعى إلى مواجهة التحديات المماثلة.
دولة اليابان: تغذيةٌ تتمحور حول التعليم
توفر اليابان نهجًا متباينًا ومتكاملًا في مجال التغذية الوطنية، وهو نهج يتناسب بشكل خاص مع المجتمعات الغنية التي غالبًا ما تتوفر فيها خيارات غذائية سيئة نظرًا لوفرة الغذاء. ويتميز النهج الياباني بمحتواه التعليمي القوي وإطاره القانوني. إذ يشترط القانون الياباني على المدارس توظيف أخصائي تغذية مؤهلين للإشراف على تخطيط الوجبات وإعدادها. ويشدد الأخصائيون على استهلاك الخضروات الموسمية والتقليل من الأطعمة المصنعة، ويعملون في الوقت نفسه كمُعلمين لتثقيف الطلبة حول التغذية الصحية السلمية وعادات الأكل الصحية.
ويتعدى هذا النهج التركيز على تقديم الطعام المتكامل فقط للطلاب، بل يعمد لتثقيفهم من قبل خبراء في مجال التغذية، يشرفون على تخطيط وإعداد الوجبات الغذائية. كما يحافظ النظام على ارتباطه الوثيق بالتقاليد الثقافية والعادات الغذائية التي تتوافق مع المعايير الغذائية المعاصرة. إن نتائج النظام أبلغ من القول، فقد صُنفت اليابان بتمسكها بعاداتها الغذائية التقليدية مع مراعاة المعايير الغذائية المعاصرة ضمن الدول المتقدمة التي لديها أدنى معدلات السمنة لدى الأطفال، الأمر الذي يدل على فعالية نهج التغذية الذي يرتكز على التعليم للتصدي للتحديات الغذائية الراهنة.
نماذج للتغذية العالمية
حققت دول أخرى نتائج ملحوظة جراء اتباعها نهجها الخاص في إطار برامج التغذية الوطنية. فقد لعبت برامج الوجبات الغذائية المدرسية في كوريا الجنوبية، حيث يتم التركيز على الوجبات الغذائية التقليدية المتوازنة، دورًا حاسمًا في الحفاظ على معدلات السمنة المنخفضة بين الطلاب. كما أثبتت فنلندا نفسها كنموذج للدول الأوروبية، عن طريق الجمع بين الوجبات الغذائية المدرسية المجانية والتثقيف الغذائي الشامل. وفي الوقت نفسه، أظهرت البرازيل نجاحًا ملحوظًا في الحد من معدلات القزامة، من خلال تطبيق برامج التغذية الشاملة، الأمر الذي يؤكد على أن بمقدور المبادرات المدروسة بعناية تغير مخرجات الصحة العامة.
ويتطلب تطبيق برامج التغذية الشاملة استراتيجيات قابلة للتنفيذ في سياقات مختلفة. فبالنسبة للدول النامية، يجب أن ينصب التركيز على ضمان الأمن الغذائي الأساسي، وتوفير السعرات الحرارية الكافية والمغذيات الأساسية للتصدي للقزامة وتأخر النمو. كما يعد بناء نظم قوية لتوزيع الأغذية أمرًا بالغ الأهمية لضمان تحقيق هذه الأهداف. أما في الدول المتقدمة، فيكمن التحدي الحقيقي في الحث على تبني عادات الأكل الصحية للوقاية من الأمراض المرتبطة بالأنظمة الغذائية السيئة، وسيترتب على ذلك إعادة هيكلة النظم الغذائية، ومنح الأولوية للتغذية الصحية، واعتماد برامج تثقيفية تمكّن المواطنين من اتخاذ خيارات غذائية سديدة.
ومن أهم العوامل الرئيسية التي يجب مراعاتها لنجاح هذه البرامج، هم: إدراك الحساسية الثقافية، ووضع خطط محكمة لتقليل التكلفة، وضمان المشاركة المجتمعية. كما يجب أن تتكيف البرامج مع التقاليد الغذائية المحلية بما يتوافق مع المعايير الغذائية. ولضمان استدامة واستمرار البرنامج بنجاح، يجب الاستفادة من البنية التحتية الحالية، وعقد شراكات مع المنتجين المحليين، وإنشاء سلاسل توريد فعالة؛ والأهم، توظيف أخصائي التغذية المؤهلين وأخذ مساهمات المعلمين وقادة المجتمع المحلي بعين الاعتبار لضمان جودة البرنامج وفعاليته.
كتب هذا المقال: الدكتور محمد فرحان أستاذ مشارك بكلية العلوم الصحية والحيوية في جامعة حمد بن خليفة.
تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.