إنّ المؤتمر الثامن والعشرين للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP28)، المنعقد حاليًا في دولة الإمارات العربية المتحدة، ليس مجرد مؤتمرٍ عابر، ولكنه يمثّل لحظةً فارقةً في الحوار العالمي المستمر بشأن تغير المناخ، حيث يجمع بين قادة العالم وخبراء البيئة لتحقيق غايةٍ مشتركة، وهي ضمان ألا يتجاوز الارتفاع في درجة حرارة كوكبنا عتبة 1.5 درجة مئوية، وهو رقمٌ ينبني عليه مستقبلنا جميعًا على هذا الكوكب.
يجسّد مؤتمر الأطراف أيضًا نقطة انطلاقٍ للعالم للإسراع في التحوّل إلى الطاقة المتجددة بحيث تشمل الجميع، وتغيير الكيفية التي نتزوّد بها بالطاقة، وإعادة تعريف الأطراف المستفيدة من هذا التغيير، وكذلك يسعى المؤتمر إلى تعزيز إدارة التغير المناخي بشكل يجعل السياسات المترتبة أكثر قوة وفعالية وأكثر ملاءمة لمواجهة أزمة المناخ.
يقوم مؤتمر الأطراف أيضًا على رسم مستقبلٍ يتناغم فيه كوكبنا وصحتنا، وبالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، فهو فرصةٌ للريادة وإظهار كيف يمكن لمنطقةٍ معروفةٍ بمناخها القاسي أن تكون في طليعة المرونة المناخية والابتكار.
احفظوا هذا التاريخ
في الثالث من ديسمبر أفسحت المناقشات العالمية حول تغير المناخ المجال لأول مرة لأحد الاعتبارات الهامة في هذا الميدان، ألا وهو الصحة العامة، حيث تكلّل ذلك بالإعلان عن يوم الصحة الأول من نوعه لمؤتمر الأطراف، بتنظيمٍ من منظمة الصحة العالمية وصندوق "ويلكم" وشركاء آخرين، وهو أكثر من مجرد مناسبة رمزية، فهو حدث ذو أهمية كبيرة يضع تأثيرات تغير المناخ على الصحة في صدارة الأولويات.
تتمحور رسالة يوم الصحة حول تسليط الضوء على كلٍ من التأثير المباشر للارتفاع في درجات الحرارة وتغيير السياسات نحو الطاقة المتجددة على حياتنا ورفاهيتنا، ويُخطَّط لهذا اليوم أن يكون ملتقىً للأفكار، حيث يجتمع الوزراء مع متخصصين في الرعاية الصحية، ويتحدث قادة المجتمع المدني مع رواد الأعمال، وكل ذلك على أمل تشييد مسارٍ موحّدٍ للتكيّف والتعافي في مواجهة تحديات المناخ.
أما على صعيد الساحة المحلية، تعمل دولة قطر على تكثيف جهودها من خلال مواءمة مبادراتها في مجال الصحة العامة مع الرؤية الأوسع لمؤتمر الأطراف ورؤية قطر الوطنية 2030، بما في ذلك الجهود المبذولة لمكافحة الإجهاد الحراري وتحسين جودة الهواء، وهو التزامٌ يتردد صداه عبر مختلف الوزارات، حيث تتلاحم سياسات البيئة والصحة وتغير المناخ في منظومةٍ قيادية استباقية.
ويتضمن يوم الصحة أيضًا مجموعة متنوعة من الفعاليات، بدءًا من المناقشات الجادّة حول الالتزامات السياسية والمالية، ووصولًا إلى التعمّق في الآثار الصحية لتغير المناخ، فهو يومٌ يلتقي فيه إنقاذ الأرواح مع جهود تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في جميع القطاعات، حيث يلتقي خبراء التمويل وخبراء الصحة لرسم مسارات جديدة للعمل المشترك، ودعونا لا ننسى أيضًا آثار تغير المناخ على الصحة العقلية، وهو موضوع مُلحّ وغالبًا ما يتم التغاضي عنه في هذا السياق.
التداعيات الأوسع نطاقًا
يعتبر يوم الصحة الأول لمؤتمر الأطراف أكثر من مجرد حدث بارز في المؤتمر العالمي فحسب، ولكنه يغير قواعد اللعبة بالنسبة لمحادثات المناخ العالمية، وتخيل عالمًا تتشابك فيه الصحة العامة مع العمل المناخي، فهذه هي الرؤية التي يدافع عنها المؤتمر، ولا يتعلق الأمر بالتصدي لتغير المناخ فحسب، بل باستحداث نُظم صحية قادرة على الصمود بما يكفي لتحمل هذه التغيرات والتكيف معها، حيث تفتح هذه المبادرة الأبواب أمام آفاق تعاونية جديدة، لتساهم في تعزيز مفاهيم الدول وتدفع لنمو الابتكارات في مجال الرعاية الصحية التي تصمد أمام قسوة تغير المناخ. إنها دعوة لتضمين الاعتبارات الصحية بعمق في عمليات إدارة المناخ، وابتكار السياسات التي تتعلق برفاهية الإنسان بقدر ما تتعلق بالاستدامة البيئية. وهذا النهج الشامل، الذي يؤكد على مفهوم الصحة الواحدة ويعزز البحوث متعددة التخصصات، يتردد صداه بقوة مع أهداف التنمية المستدامة لدول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة أهداف قطر، مما يقود الجهود المشتركة نحو مستقبل يتسم بالمرونة المناخية مع الصحة العامة في سياق واحد فعلًا.
التحديات والفرص
إن تضمين الرعاية الصحية في إطار جدول أعمال مؤتمر المناخ، مثل يوم الصحة، يشبه الإبحار في سفينة عبر مياه مجهولة، حيث تحفُها تحديات متنوعة، ولكنها في نفس الوقت تزخر بفرص عديدة، وستكون إحدى أكبر العقبات هي تأمين ما يكفي من التمويل، خاصة بالنسبة لتلك البلدان التي لا تزال تسعى لتجد موطئ قدم لها على الساحة العالمية، كما أن التفاوت في الموارد والخبرات بين الولايات والمناطق يُمثل مشكلة مضاعفة، مما يتطلب بذل جهود متضافرة لتحقيق تكافؤ الفرص والمساواة.
ومع ذلك، تكمن في هذه التحديات فرصٌ مذهلة، مثل تعزيز قطاع الرعاية الصحية ليصمد ويزدهر في مواجهة التغيرات المناخية، ومن الممكن أن يُحدث ذلك ثورةً في قطاع الصحة العامة ككل ويدفع الابتكار في مجال الرعاية الصحية إلى أقصى الحدود، لا سيما فيما يتعلق بالتعامل مع القضايا الخاصة بكل منطقة مثل الحرارة الشديدة ومشاكل جودة الهواء، وهي فرصة مواتية لدولة قطر لتكون مثالًا يُحتذى به، باستخدام قدراتها التكنولوجية لتطوير أنظمة رعاية صحية تتسم بالمرونة بقدر ما هي ذات تفكير تقدمي، وفي هذا السياق، فإن دَور دول مجلس التعاون الخليجي لن يقتصر على المشاركة وحسب، بل سيكون دورًا رياديًا تمهّد فيه هذه الدول الطريق لعالمٍ يجمع بين المرونة الصحية والمناخية.
ومع إسدال الستار على مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين، ينبغي لنا أن ننظر إلى يوم الصحة الأول للمؤتمر باعتباره فصلًا محوريًا في الخطاب المناخي العالمي، ويتردد صدى هذا اليوم بعمق في دولة قطر ومنطقة مجلس التعاون الخليجي بأكملها. إن الطريق أمامنا مليء بالتحديات، كالقيود المالية وانعدام المساواة الإقليمية، ومع ذلك، يَحفَل المستقبل بآفاق مشرقة لتعزيز قطاعيْ الرعاية الصحية والابتكار الطبي، لذا تستدعي هذه اللحظة الفارقة تكاتفًا من الحكومات في دول مجلس التعاون الخليجي والمراكز البحثية والشركات والأفراد لتبني المبادرات المنبثقة عن مؤتمر الأطراف، في مسعىً جماعي نحو رؤية تتناغم فيها صحة الكوكب والمجتمع وتقودها دولة قطر ودول مجلس التعاون الخليجي لبناء مستقبلٍ زاهرٍ وصحي.
* الدكتور أزهار صديق عالمٌ في معهد قطر لبحوث البيئة والطاقة التابع لجامعة حمد بن خليفة.
*جميع الأفكار والآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن كاتبها ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.
نُشر هذا المقال في صحيفة Gulf Times باللغة الإنجليزية ويمكن الاطلاع عليه هنا