الدكتور محمد غالي
بحلول نهاية عام 2020، لاح أمل جديد لاحتواء جائحة كوفيد-19، وبدأ الناس في جميع أنحاء العالم التفكير في المسار الذي سينجح معهم: هل يقبلون اللقاح أم لا؟ وقد أرجع البعض حالة أو ظاهرة التردد، بل والتوجس أحيانا، من تناول اللقاحات بين أصحاب الديانات، بما فيهم المسلمون، لأسباب تتعلق بمعتقدات دينية. ونحاول هنا تناول هذه الظاهرة من زاوية العلاقة بين الدين والعلم، حيث غالبًا ما تشكل المعرفة العلمية، حتى وإن لم تتم الإشارة إليها صراحة، عاملا مهما في صياغة الحكم الشرعي، كما نتعرض لبعض القضايا الأخلاقية ذات الصلة، والتي لم تحظ باهتمامٍ كاف في الخطاب الأخلاقي حول لقاحات كوفيد-19.
لقاح الجدري
عندما بلغت جائحة الجدري ذروتها في نهاية القرن الثامن عشر، تمكن الطبيب الإنجليزي إدوارد جينر، الذي تُوفي في عام 1823، من تطوير أول لقاح في العالم عام 1796، ومن ثم أصبح يُعرف برائد علم اللقاحات الحديث.
في الجانب الآخر من العالم، استحوذت أخبار الصفحات الأولى عن هذا الاكتشاف المذهل على اهتمام تاجر كاثوليكي أرميني مقيم في بغداد، يُدعى أوانيس مراديان، والذي عُرف بتعطشه للمعرفة، وشغفه بمتابعة التطورات العلمية الحديثة، وإتقانه لعدة لغات. وكان مراديان حريصًا على تقديم هذا اللقاح الجديد إلى سكان مدينة بغداد ونشر ثقافة التلقيح هناك.
وبحسب المصادر التاريخية، لم تنجح محاولات مراديان في بادئ الأمر بسبب "الأوهام السائدة وقتئذ على العقول"، والتي كان بعضها يتعلق بمعتقدات دينية جعلت الناس ينظرون بعين الريبة إلى هذه التقنية الطبية الجديدة. وللتغلب على هذه العقبات، تمكن مراديان من إقناع مفتي بغداد الكبير، أحمد أفندي، بالتطعيم على الملأ مع أبنائه وأحفاده الستة، وذلك بعد أن طعم مراديان ابنه بحضور كثير من أرباب الأسر. وشجع التصرف الذي قام به مفتي بغداد الناس من مختلف الديانات على تلقي التطعيم، دون خف أو ريبة.
وفي النهاية، حقق مراديان نجاحًا كبيرًا وقام بتطعيم ما يصل إلى 5,400 طفل على مدار تسع سنوات. وبالإضافة إلى ذلك، وسَّع مراديان فيما بعد النطاق الجغرافي لحملة التطعيم عبر إيصال حملته إلى مدينة عراقية أخرى، وهي الموصل.
دروس من التاريخ
تقدم هذه الرواية عددا من الدروس والعبر التاريخية، حيث تُظهر قصة نجاح مراديان في مدينة بغداد خلال القرن التاسع عشر أبعاد العلاقة الوثيقة بين الجوانب "الدينية" و"العلمية" للتطعيم في أي محاولة لإشراك الجمهور وكسب ثقتهم. فقد كان إشراك شخصية دينية مثل مفتي بغداد في حملة التطعيم أمرًا حاسمًا في حشد الجماهير. يبدو كذلك أن "المعرفة العلمية" هي التي مكنت مراديان من إقناع المفتي بالتطعيم مع أسرته على الملأ. وبدت هذه النقطة أكثر وضوحًا في موقف العالم المسلم المعروف رشيد رضا، الذي تُوفي في عام 1935. ففي تعليقه على لقاح جينر لمكافحة الجدري، أكد الشيخ رشيد رضا على أن الفقهاء قد ناطوا الحكم على مثل هذه الممارسات الطبية بالأطباء الثقات بناء على الموازنة بين المنافع والأضرار المحتملة. وخلص رضا إلى أن المعرفة الطبية المتاحة أظهرت أن هذا اللقاح قد أثبت جدواه بشكل كبير وأن الأطباء "متفقون على نفع التلقيح، وقلما نرى أو نسمع أن أحدًا تضرر منه فهو إذا لم ينفع لا يضر - هذا هو المعروف المجرب والنادر لا حكم له". وعلاوة على ذلك، كان للنجاح الفعلي للقاح الجديد في احتواء جائحة الجدري دور حاسم في تمكين مراديان من مواصلة حملته لمدة تسع سنوات، بل وتوسيع نطاقها الجغرافي لاحقًا.
سياق جائحة كوفيد-19
نلحظ استمرار العلاقة والصلة بين العلم والدين في الخطاب الديني الأخلاقي حول التطعيم الآن في السياق الحديث لجائحة كوفيد-19. وترتبط جميع المواقف "الدينية" تقريبًا، والتي يجرى تداولها في الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، ارتباطًا وثيقًا بنوع المعرفة العلمية المتاحة لأصحاب كل موقف. فعلى سبيل المثال، أكدت الفتوى الأخيرة الصادرة عن مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي بشأن لقاحات كوفيد-19 على فكرة أن معرفة سلامة وفعالية ونجاعة للقاحات المُطورة حديثًا تؤخذ من جهات الاختصاص الصحية وأهل الخبرة من مراكز البحث الموثوقة.
ولا تزال هناك مخاوف دينية يتنشر الحديث عنها على نطاق واسع تتعلق بالمواد المستخدمة في تصنيع لقاحات كوفيد-19، ومنها إمكانية احتوائها على مواد "نجسة" أو "محرمة"، مثل المواد المستخلصة من الخنزير. وردًا على ذلك، أشارت الفتوى إلى أن المعلومات التي قدمها مطورو اللقاحات التي أنتجتها شركتي فايزر وموديرنا تفيد بعدم استخدام مثل هذه المواد. وأضافت الفتوى أنه حتى لو اشتملت مكونات اللقاح على مواد نجسة، فإنه يجوز استعمال اللقاح، إذا ثبتت فعاليته في الغالب، لأن هذه المواد النجسة تزول أعراضها ويتم استهلاكها واندماجها في التركيبة الجديدة المؤلفة من موادّ متفرّقة.
قضايا أخلاقية غائبة
إذا كان يجب تأسيس الخطاب الديني الأخلاقي على معرفة علمية موثوقة، فيجب كذلك ربط العلم النافع بتعزيز القيم الأخلاقية. فمع هذا الفيض الدافق من الأخبار والشائعات والتساؤلات حول اللقاحات ومدى نفعها أو ضررها واحتمال عدم توافقها مع الأحكام الشرعية، اعتمد الفقهاء خطابا "دفاعيا" يهتم في الأساس بالرد على هذا الطيف الواسع من الأسئلة والشكوك والادعاءات. وللأسف، غالبا ما يتم تهميش أو غياب الاهتمام بالقيم الأخلاقية الكبرى مثل العدل والرحمة والشفقة بالضعفاء، والتي تشكل، مع أخواتها، إرثا أخلاقيا كونيا. فلا تكاد الفتاوى المطولة، التي تؤكد على ضرورة قبول المعرفة العلمية واعتمادها في منظومة الحكم الشرعي، تخصص مساحة كافية للحديث عن الالتزامات الأخلاقية لمطوري ومصنعي هذه اللقاحات والحكومات تجاه الفئات الضعيفة والدول الفقيرة. وبسبب الدور الهامشي لمثل هذه القيم، حذر المدير العام لمنظمة الصحة العالمية مؤخرًا من أن "العالم على شفا فشل أخلاقي كارثي".
وتحدثت بعض التقارير الصحفية عن تكالب الدول الغنية على شراء اللقاحات لدرجة أن بعض هذه الدول بات لديها القدرة على تطعيم كل مواطن خمس مرات، رغم أن العديد من الدول الفقيرة لن تكون قادرة إلا على تطعيم شخص واحد من بين كل عشرة أشخاص.
وفي رسالة وجهها إلى شركات صناعة الأدوية، دعا الدكتور أحمد الطيب، الإمام الأكبر وشيخ الأزهر الشريف في مصر، إلى اعتماد سياسات عادلة يحركها الضمير الإنساني بدلاً من السعي إلى تحقيق المكاسب المالية لضمان وصول اللقاحات إلى الفئات الضعيفة، بما في ذلك اللاجئين. وفي هذا الصدد، يجب أن نضيف أن الدول الإسلامية الغنية كذلك عليها التزام أخلاقي يتمثل في مد يد العون للأفراد والبلدان الفقيرة التي لا تستطيع تحمل تكاليف الحصول على لقاحات كوفيد-19. وفي نهاية المطاف، يتساءل المرء: كيف يمكن لشخص مسلم أو صاحب خُلٌق عموما، أن يبرر احتكار اللقاحات أو تخزينها بشكل فائض عن الحاجة باسم "المصلحة الوطنية" أو تحت شعار "أنا أولاً"، بينما يرى آخرون يواجهون خطر الموت بسبب عدم قدرتهم على تحمل تكاليف اللقاحات؟