البرامج
الأخبار والرؤى

الأخلاقيات الإسلامية لمكافحة الجرائم المالية
يشكل كل من غسيل الأموال، والفساد، والاحتيال المالي تهديدات عالمية مستمرة تقوض النزاهة الاقتصادية؛ ففي حين تهيمن النُّظُم القانونية العلمانية على الجهود التي تكافح هذه الجرائم، يقدّم الفقه الإسلامي رؤى قوية ومتكاملة بُنيت على مكارم الأخلاق، والمسؤولية المجتمعية، والالتزامات الدينية؛ فعلى سبيل المثال، لا تزال بعض الدول الإسلامية تتمسك بالآليات الإسلامية التقليدية، مثل "الحسبة" إضافة إلى الأطر الدولية لمكافحة عمليات غسيل الأموال.
الأسس الإسلامية للتصدي للجرائم المالية
تستنكر النصوص الاسلامية الأفعال التي تشكّل جوهر هذه الجرائم، وعلى الرغم من أن مصطلح "غسيل الأموال" لم يرد صراحة في النصوص الإسلامية، إلا أن القرآن الكريم والحديث الشريف وضعا أسس التحريم والنهي عن الخيانة، والنهب، والرشوة، إذ يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾ (سورة البقرة، الآية 188)، ويقول تعالى أيضًا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾ (سورة النساء، الآية 29). وإضافة إلى ما سبق، تنصّ الآية 282 من سورة البقرة على ضرورة الحفاظ على الشفافية وتوثيق التعاملات المالية، وهذه مبادئ أساسية لمكافحة غسيل الأموال.
كما تنص الأحاديث النبوية الشريفة على أن "من غشنا فليس منا" (صحيح مسلم والترمذي)، للتأكيد على أن الخداع يتناقض مع الدين الحنيف والقيم الأخلاقية الإسلامية، ويركز الفقه على مفهوم "المال الحرام"، حيث تحرم الشريعة الإسلامية التواطؤ في الإثم (سورة المائدة، الآية 2)، وتضع المسؤولية الأخلاقية على كل من يشارك في عملية غسل الأموال غير المشروعة أو يمولها. وتؤكّد هذه الأسس الفقهية على أن النزاهة المالية ليست مجرد التزام قانوني، بل هي واجب ديني لتعزيز السلوك الأخلاقي من خلال الاستشعار الدائم لمراقبة الله عز وجل.
وتتضمن التقاليد الاسلامية آليات مثل "الحسبة"—آليات تستند إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- (سورة آل عمران، الآية 104). وتاريخيًا، كان المحتسب (مفتش السوق) يشرف على نزاهة ومشروعية المعاملات التجارية، مجسدًا بذلك مبدأي الرقابة والوقائية. كما كان المحتسب يقوم بدور الرقابة الأخلاقية بفاعلية خارج نطاق مؤسسات الدولة التي تركز على الأفراد والمجتمعات. ويماثل الالتزام بآليات الحسبة الامتثال بالمعايير الحديثة. وتحافظ المؤسسات المالية الإسلامية الحديثة على مبادئ الحسبة من خلال تأسيس هيئات الرقابة الشرعية، والتثقيف المجتمعي، والتدقيق الأخلاقي الدقيق، وتعزيز الامتثال الطوعي؛ فضلًا عن تعزيز اليقظة الاجتماعية ضد السلوكيات المالية السيئة.
المصارف الإسلامية: التوافق الأخلاقي مع المعايير الدولية لمكافحة غسيل الأموال
تدمج المؤسسات المالية الإسلامية (IFIs) بطبيعتها ضمانات مكافحة غسيل الأموال كجزء من امتثالها للشريعة الإسلامية من خلال إتباع عدد من الآليات، مثل أخذ الحيطة. كما أن بروتوكولات "اعرف عميلك (KYC)" المعززة، وعمليات التحقق الصارمة من مصدر الأموال تشكل أيضًا جزءًا كبيرًا من المعايير التمويلية في المصارف الإسلامية، مما يضمن استخدام الأموال الحلال (المشروعة) فقط.
ولدى البنوك الإسلامية لجان شرعية تعمل كهيئات رقابية تطبق آليات الحسبة وتضمن توافق العمليات المالية مع القيم الإسلامية. ولا تستمد ممارسات مكافحة غسيل الأموال شرعيتها من القوانين المنصوصة فحسب، بل من الالتزامات الدينية أيضًا. كما يقدم العلماء المسلمون وبعض المنظمات، مثل: مجمع الفقه الإسلامي الدعم الفقهي اللازم من خلال إصدار فتاوى تدين غسيل الأموال كونه حرامًا، مستشهدين بما فيه من خداع، وضرر مجتمعي، وتيسير للفساد بشكل عام.
وتشارك الدول ذات الأغلبية المسلمة بنشاط في الجهود العالمية لمكافحة غسيل الأموال وتعمل ضمن هيئات، مثل: فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية (FATF) والهيئات الإقليمية المماثلة، حيث تمتلك كل من دولة قطر، وتركيا، والمملكة العربية السعودية العضوية الكاملة. ولقد صادقت أغلب الدول الإسلامية الاتفاقية الدولية لقمع تمويل الإرهاب 1999 واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية 2000. وتُظهر هذه التحالفات أن المبادئ الإسلامية والمعايير القانونية الدولية لا يتعارضان، بل يعززان بعضهما البعض.
وعلى الرغم من التقدم المحرز في هذا الشأن، فإنه لا تزال هناك عدة ثغرات في العمليات التنفيذية، إذ أن القدرات التقنية لا تزال تشكل تحديًا نتيجة افتقار بعض الدوائر القضائية لوجود جهات تنظيمية مؤهلة أو شح البنيات التحتية المتطورة للرقابة. كما تعيق وحدات الاستخبارات المالية الهشة عمليات الكشف والتطبيق، ويتعذر على المناطق المتأثرة بالنزاعات تطبيق قوانين مكافحة غسيل الأموال بشكل متسق. وبشكل عام، هناك بوادر تحسن بفضل التعاون الدولي، والإصلاحات القانونية، وتزايد امتثال القطاع الخاص للمعايير؛ ولكن لا يزال هنالك العديد من الأمور التي يمكن تحسينها.
وإنه لمن الضروري جدًا دمج الأطر الفقهية، والتكنولوجية، والقانونية من أجل ضمان مواءمة المبادئ المستمدة من الشريعة الإسلامية المعايير العالمية لمكافحة غسيل الأموال من أجل تعزيز الامتثال والثقة العامة في السياقات الإسلامية. وعليه، يجب على القطاع المصرفي الإسلامي تعزيز التعاون متعدد القطاعات، وإشراك العلماء المسلمين، والهيئات التنظيمية، والمؤسسات المالية في العملية. كما يجب أن يعمل الجميع معًا يدًا بيد لجعل المحظورات الفقهية قوانين مطبقة.
وهناك حاجة إلى تعزيز القدرات المؤسسية في البلدان ذات الأغلبية المسلمة من خلال الاستثمار في التدريب التقني والبنية التحتية لتنفيذ ضوابط مكافحة غسيل الأموال بفاعلية. كما يجب أيضًا تعزيز دور المشاركات المجتمعية من خلال حملات محو الأمية المالية وزيادة الوعي الأخلاقي عن طريق حملات التثقيف المستوحاة من آليات الحسبة؛ فضلًا عن تسليط الضوء على الممارسات المثلى والحث على تقديم الجوائز العالمية للمساهمة في تغيير الممارسات الحالية وتحسين مواءمتها للمعايير الدولية.
ولم يكتف الدين الإسلامي بإدانة الجرائم المالية فحسب، بل زود المجتمعات بالأدوات - الأخلاقية، والروحيَّة، والمؤسّساتية - اللازمة للتصدي لها. كما توفر الأخلاقيات الإسلامية والتقاليد القانونية الإسلامية أدوات فعّالة في مكافحة مختلف الجرائم المالية، وفي حال تم دمجها مع الأنظمة القانونية الحديثة يصبح بوسعنا بناء جبهة قوية تتصدى للتمويلات غير المشروعة.
هذا المقال من تأليف: الدكتور عبد الفتاح سعيد محمد، أستاذ الشؤون الدولية والإسلام المساعد في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة
* تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.
كلية الدراسات الإسلامية هي موطن الباحثين والطلاب الملتزمين بتجديد الإسلام وقيمه الأصيلة ويدركون تطبيقاته المتنوعة في حياتنا اليومية.
الدكتور رجب شانتورك
عميد كلية الدراسات الإسلامية
عن الكليةالفعاليات
تزكيات
في أرقام
190
الطلاب الحاليون
937
الخريجون
12
البرامج