الدكتور سامر رشواني
على مدار عقود طويلة، قام كثير من العلماء بدراسة الأبعاد الأخلاقية لحقوق الإنسان، فهناك توافق دولي على أهمية حقوق الإنسان باعتبارها ركيزة أساسية لأي مجتمع يتمتع بمعايير العدالة والأخلاق، التي لا تخضع للمساومة أو التجزئة، كما يؤكد العديد من العلماء على أن حقوق الإنسان يجب أن تكون مبدأ أساسي للخطابات الأخلاقية والقانونية، ومن هذا المنطلق تم وصف عصرنا الحالي بأنه "عصر الحقوق" الذي يتسم بتعزيز الأخلاق القائمة على الحقوق، ويبدو أن لغة الحقوق تستحوذ على مجموعة كاملة من المفردات الأخلاقية والقانونية، حيث تُستخدم حقوق الإنسان في جوانب عديدة، لتحل محل الأخلاق، وتُؤخذ كأمر مُسلّم به بطريقة ما لتُشكل ما يسمى بـ "الممارسة الأخلاقية".
وعلى الجانب المقابل، يؤكد فلاسفة مثل مايكل ساندل، وتشارلز تايلور، وأمارتيا سين، أن مثل هذا النهج لا يُقوض الحقوق الفردية فحسب، بل يعمل أيضاً ضد مجموعة من العلاقات والمواقف الإنسانية الأخرى ذات الأهمية الأخلاقية، والتي تتضمن التكاتف والرعاية والتراحم والإحسان بين أفراد المجتمع، وكلها معاملات تؤدي دوراً أساسياً في حياتنا، فهم يجادلون بأن التركيز على الحقوق الفردية يمكن أن يؤدي إلى مجتمع مُنقسم يكون فيه الناس أقل عرضة للشعور بالالتزام أو المسؤولية تجاه الآخرين، وهو بالضبط ما قيل من قبل بأن مفهوم الحقوق هو نتيجة ظروف تاريخية معينة خاطرت بانقلاب في مفاهيم الأخلاق رأساً على عقب، مدفوعة بادعاءات شعور ذاتي بالاستقامة والاستحقاق.
وفي الآونة الأخيرة، تطورت مفاهيم حقوق الإنسان لتتحول إلى مجال أكاديمي متعدد التخصصات، يدمج رؤى متنوعة في تخصصات عديدة مثل الفلسفة والأخلاق والسياسة والتعليم وعلم النفس والأنثروبولوجيا وأخلاقيات علم الأحياء، وأصبح التقارب بين هذه التخصصات وحقوق الإنسان، باعتبارها إطاراً أخلاقياً لكثير من الممارسات، مجالاً واسعاً للبحوث.
وتتضمن المدونات الأخلاقية المهنية بالفعل قواعد تتعلق بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، ومع ذلك، يجادل بعض العلماء بأن حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية لا ينبغي حصرها في إطار "قواعد" فقط، ولكن كمنهج حياة يتم على أساسه تحديث هذه القوانين وفهمها بالشكل المطلوب، ومن الأمثلة على ذلك الدور المهم لحقوق الإنسان في المجال الطبي، حيث يلتزم العاملون في القطاع الطبي باحترام حقوق الإنسان لمرضاهم، بما في ذلك الحق في الخصوصية، والموافقة القائمة على المعرفة، والحفاظ على كرامة المرضى، وهو ما تؤكده المدونات الأخلاقية العالمية، مثل إعلان هلسنكي الصادر عن الجمعية الطبية العالمية، والذي يتضمن معايير محددة للبحوث الطبية التي تُجرى على البشر.
وهناك مثال آخر للعلاقة الوثيقة بين حقوق الإنسان وأخلاقيات العمل، حيث تبنت العديد من الشركات سياسات تؤكد التزامها باحترام حقوق الإنسان لموظفيها ومورديها وعملائها، واتخاذ إجراءات حازمة لمنع التحايل عليها أو انتهاكها. وتخضع هذه العلاقة لمعايير دولية، مثل مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان، التي توفر إرشادات حول كيفية التوفيق بين العمليات التجارية ومعايير حقوق الإنسان، كما يمكن أيضا ملاحظة العلاقة الوثيقة بين حقوق الإنسان والمعايير الأخلاقية في مجالات عديدة أخرى، مثل الأخلاقيات البيئية والعدالة الجنائية والتعليم.
وعندما كانت مبادئ حقوق الإنسان والمعايير الأخلاقية، لاسيما من منظور إسلامي، مجالاً للنقاش والدراسة بين علماء الدراسات الإسلامية والقضايا المتعلقة بها لعدة عقود، فإن هناك كثيرون استكشفوا مفهوم حقوق الإنسان في ضوء القرآن الكريم والسُنّة النبوية والنصوص الدينية الإسلامية الأخرى، وقد سعوا إلى تحديد الأساليب التي تتداخل فيها معايير الأخلاق والقِيّم الإسلامية مع فكرة حقوق الإنسان، كما كان هناك نقاش كبير بين العلماء والمفكرين المسلمين حول مدى توافق الشريعة الإسلامية مع معايير حقوق الإنسان، والدور الذي يمكن أن تؤديه معايير الأخلاق الإسلامية في تشكيل نظرية شاملة ومتكاملة عن حقوق الإنسان.
وللمساهمة في تشكيل وتوجيه المناقشات المعاصرة، عقد مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، ومقره كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة، مؤتمره الدولي العاشر حول التقارب بين الأخلاق الإسلامية وحقوق الإنسان، حيث استقطب المؤتمر خبراء وعلماء مرموقين في مجال الدراسات الإسلامية والقانون والسياسة والأنثروبولوجيا وأخلاقيات علم الأحياء، لمناقشة وإعادة النظر في الأسس الأخلاقية لحقوق الإنسان، واستكشاف أساليب جديدة لمعرفة كيفية تداخلها وتفاعلها بين مختلف التخصصات، ولا يهتم المؤتمر بالأسئلة التي عفا عليها الزمن حول العلاقة أو التوافق أو المصالحة بين حقوق الإنسان الدولية التقليدية، مع مبادئ الشريعة الإسلامية، ولكنه يُسلط الضوء على مناقشات جديدة وعميقة حول التقارب بين الأخلاق الإسلامية من جانب، وبين الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من جانب آخر، وركزت دراسات الحالة، التي استعرضها المؤتمر، على حقوق اللاجئين والناجين من الفظائع الجماعية، لاسيما صحتهم النفسية والعقلية، فضلاً عن أخلاقيات علوم البيولوجيا والنظريات المتعلقة بها، مثل كرامة الإنسان، واحترام الضعف الإنساني، والسلامة الشخصية.
ولاشك أن التقارب بين الأخلاق الإسلامية وحقوق الإنسان سوف يكشف التشابك أو التعقيدات التي تواجه مفهوم حقوق الإنسان بين ما هو أخلاقي وقانوني، وهو مفهوم لا يزال يُثير مناقشات معقدة بين الفلاسفة والخبراء القانونيين وعلماء السياسة وعلماء الدين، لذا فإن هذا التقارب المتعدد الأوجه بين مختلف السِّمات الأخلاقية لحقوق الإنسان، يُثير أسئلة تُعبر عن تخصصات متعددة، مثل إعداد نظرية أخلاقية إسلامية ناجعة تستند على معايير حقوقية، وهو الأمر الذي ناقشه المؤتمر، حيث تم طرح ومناقشة هذه القضايا وغيرها من زوايا مختلفة، مثل الأخلاق اللاهوتية، والنظرية القانونية الإسلامية، والمذاهب الفقهية، والأخلاق الفلسفية، والأدب، والأخلاق السياسية، والأخلاق التطبيقية، وأخلاقيات علم الأحياء من وجهة نظر إسلامية، حيث يُعد استخدام نهجاً متعدد التخصصات أمراً ضرورياً للكشف عن المبادئ والممارسات المشتركة والمتضاربة أيضاً في العديد من المجالات والتخصصات والثقافات.
يُعد الدكتور سامر رشواني باحثاً في الدراسات القرآنية والتاريخ الفكري الإسلامي، ويركز تعليمه وأبحاثه على مسارات الدراسات الإسلامية حول القرآن الكريم منذ القرون الأولى للإسلام وحتى وقتنا الحالي، فضلاً عن التدقيق في مناهج التفسير الجديدة للقرآن الكريم، كما يشغل حالياً منصب باحث أول في برنامج ماجستير الآداب في الأخلاق التطبيقية الإسلامية، في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة.
وقد عٌقد المؤتمر الدولي العاشر لمركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق حول التقارب بين الأخلاق الإسلامية وحقوق الإنسان، خلال الفترة من 15 إلى 16 مارس 2023 في قاعة المحاضرات، بمبنى المنارتين في المدينة التعليمية.