التصنيع المستدام ودوره الحيوي في المستقبل
- الصفحة الرئيسة
- غرفة الأخبار
- التصنيع المستدام ودوره الحيوي في المستقبل
يوفر التحول المستمر نحو تبني معايير الابتكار بشكل أكبر وممارسة المزيد من الأنشطة الصناعية القائمة على التكنولوجيا فرصًا هائلة للشركات، بما في ذلك شركات التصنيع، للتدخل والمساعدة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وتبرز أهمية هذا التحول بشكلٍ أكبر في ضوء البيانات المتعلقة بالفوائد الاقتصادية لاتباع نماذج أعمال مستدامة وشاملة بما في ذلك توفير فرص العمل.
وقد تطورت الممارسات المستدامة في التصنيع، وهو أحد أكثر القطاعات كثافة في استهلاك الطاقة، انطلاقًا من دراسات علمية متعددة التخصصات، بما في ذلك تكنولوجيا المعلومات والحوسبة والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الذكية وعلوم المواد والتصميم والهندسة وما إلى ذلك. وتوفر هذه الممارسات فرصةً لقطاع التصنيع لكي يكون أكثر كفاءة في عمليات الإنتاج، ولكن الأهم من ذلك هو أن يصبح مستدامًا من الناحية البيئية.
ما هو التصنيع المستدام وكيف يُحدث ثورةً في عمليات التصنيع الحالية؟
يعني مصطلح التصنيع المستدام عملية تصنيع الأشياء وإنتاجها وصنعها "دون حدوث نفايات أو بصمة كربونية" تؤثر على الكوكب والناس لتحقيق أعلى درجة ممكنة من الرخاء. ويتعلق الأمر بتصميم المنتجات أو الأجهزة أو الأنظمة الأكثر كفاءة وفعالية، وتصنيعها وتشغيلها مع استهلاك أدنى مقدار من الموارد.
ويختلف هذا النموذج تمامًا عن نموذج "الصناعة من أجل البيع وتجاهل التأثيرات" الذي يعود تاريخه إلى قرونٍ مضت. ويتميز نموذج التصنيع المستدام بأنه نهج أحدث "للصناعة حسب الطلب ومراعاة جميع التأثيرات طويلة الأمد"، وهو مرادف للمساءلة والمسؤولية ووظائف المنتجات والعمليات واستخدامها طوال دورة الحياة. ولا يقلل هذا النموذج من التكلفة المالية لصنع المنتجات فحسب، بل يخفض كذلك التكلفة الاجتماعية، من حيث تأثيره على المجتمع والبيئة، في الوقت الراهن وفي المستقبل.
هلا تفضلت بذكر بعض ممارسات التصنيع المستدام المستخدمة الآن؟ وما هي الصناعات الأكثر استفادة من تنفيذ هذه الممارسات؟
تشتمل بعض ممارسات التصنيع المستدام المعروفة والمقبولة على نطاق واسع على ترشيد استهلاك الطاقة، مع الاعتماد بشكل أكبر على الطاقة النظيفة والمتجددة في مراحل التصميم والإنتاج والنقل لأي نظام تصنيع أو سلسلة توريد اعتيادية. ويمكننا أن نرى المزيد من أسطح المصانع المزودة بتركيبات الألواح الكهروضوئية، على سبيل المثال.
وهناك العديد من الممارسات الأخرى غير المرئية للعالم الخارجي، مثل استبدال المحركات الكبيرة والمهدرة بمختلف أنواعها، والمضخات، وأجهزة ضغط الهواء، ومعدات الإضاءة بمعدات أخرى أصغر وأكثر كفاءة وذكاء.
وبالمثل، فإن ترشيد استهلاك المياه، مع التركيز على عمليات تدوير المياه ومعالجتها هي إجراءات مقبولة بشكل عام في مختلف القطاعات الصناعية. وتشتمل ممارسات الإدارة والتشغيل السريعة والمرنة والفعالة، التي تُستخدم برفقة برامج التدريب والتطبيقات الممنهجة والمستمرة، على نظرية الحيود السداسي، وطرق تنظيم أماكن العمل، وتقنيات التصنيع الفعال.
وتشتمل وسائل التكنولوجيا المستجدة والواعدة التي تدعم أهداف التصنيع المستدام على التصنيع الإضافي (الذي يُعرف أيضًا باسم الطباعة ثلاثية الأبعاد). ويتيح التصنيع الإضافي، وهو نهج مبتكر لإنتاج مواد ثلاثية الأبعاد كاملة الحجم من التصميم بمساعدة الحاسوب باستخدام أدوات النمذجة، إمكانية تحقيق مدخرات هائلة في استخدام المواد عند مقارنته بتكنولوجيا التصنيع الطرحي التقليدية. كما يتيح هذا النهج إمكانية التصنيع الموزع والرقمي، وهو ما يحقق هدف الاستخدام الكامل والفعال للأصول مع توفير مرونة كبيرة في مرحلة التصميم. فعلى سبيل المثال، يمكن تصنيع منتج مصمم في قارةٍ ما على الفور في قارتين نائيتين بنفس المواصفات ولكن لعملاء مختلفين، وهو ما يقلل من الوقت، واستهلاك الأدوات باهظة الثمن والمهدرة، وعملية تجهيز المواد والخدمات اللوجستية. ويمكن تصنيع العديد من المنتجات الاستهلاكية مثل الإطارات الزجاجية والأجهزة الطبية بما في ذلك الطعوم والغرسات عند الطلب متى وحيثما اقتضت الحاجة ذلك مع توفير ميزات وتلبية احتياجات خاصة.
أخبرنا عن تأثير التصنيع المستدام في قطر.
هناك قطاعان من القطاعات الصناعية التي تأخرت في تنفيذ ممارسات التصنيع المستدام هما قطاع البناء وقطاع النفط والغاز بسبب إما أساليب التصنيع والعمليات والإدارة والأعمال المطبقة منذ عقود طويلة والتي يصعب تغييرها، أو المخاوف الإضافية المتعلقة بالسلامة والأمن، بالإضافة إلى إتباع ممارسات العمل والتشغيل اليدوي في جزء كبير من هذين القطاعين.
وفي هذا الصدد، فإن قطاع النفط والغاز، وهو أكبر قطاع صناعي في دولة قطر، في طور تنفيذ بعض عناصر التصنيع المستدام المعروفة. وتشتمل هذه العناصر على دمج إنتاج الطاقة النظيفة والمتجددة في عمليات معالجة الغاز والمحطات لزيادة الكفاءة وتقليل الانبعاثات الملوِثة دون التأثير على بروتوكولات السلامة والأمن.
ولهذا السبب، هناك حالات يتم فيها تركيب أنظمة الطاقة الشمسية الكهروضوئية وخلايا الوقود والبطاريات المتكاملة لتوفير الكهرباء النظيفة لعمليات معالجة الغاز. وتشتمل التطورات الأخرى التي تتيح إمكانية استخدام عناصر التصنيع المستدام والثورة الصناعية الرابعة في عمليات الغاز الطبيعي على الأتمتة المتكاملة، والمراقبة عن بعد، والصيانة التنبؤية عبر أجهزة الشبكة الذكية، وأجهزة الاستشعار، والمشغلات، والكاميرات لأغراض المراقبة والكشف والتنبؤ ومنع توقف الأجهزة والأنظمة أو تعطلها تلقائيًا. ومع ذلك، لا تزال مثل هذه التطورات تُعد باهظة الثمن وتطفلية، ولهذا السبب فإنها تتقدم ببطء.
ما الأبحاث التي تجريها كلية العلوم والهندسة حول التصنيع المستدام؟ وما أحدث الاتجاهات في هذا المجال؟
يمكن تلخيص الجهود التي نبذلها في كلية العلوم والهندسة وجامعة حمد بن خليفة حول التصنيع المستدام في أربع فئات رئيسية هي:
- البحوث التي تركز على دمج الطاقة النظيفة والمتجددة والمياه في محطات معالجة الغاز الطبيعي لتقليل الانبعاثات الملوثة وزيادة الكفاءة وتقريبها خطوة نحو تحقيق أهداف التصنيع المستدام. وقد أجرى العديد من طلاب الدكتوراه في الكلية أبحاثهم بالتعاون مع شركات الغاز الطبيعي المحلية، حيث قدَّموا تحليلات تقنية واقتصادية وبيئية وتقييمات لتلك الشركات من أجل مساعدتهم على دمج خيارات الطاقة الشمسية الكهروضوئية وخلايا الوقود والبطاريات بشكل كامل في عملياتهم.
- البحوث التي تركز على تطوير استراتيجية لصناعات محددة لكي تصبح أكثر كفاءة وأنظف في عملياتها، مثل صناعات توليد الطاقة، والصلب والألمنيوم، وتصنيع الأسمدة.
- البحوث التي تركز على الطباعة ثلاثية الأبعاد. وقد أجرينا مشاريع للبحوث والتطوير على المواد والعمليات والتصميم وتطبيقات الطباعة ثلاثية الأبعاد والتصنيع الإضافي في مختبري بقسم التنمية المستدامة منذ عام 2015. ونحن نتعاون مع مركز سدرة للطب ومؤسسة حمد الطبية لتطوير طعوم وغرسات طبية حيوية وظيفية وشخصية محلية الصنع باستخدام أنواع مختلفة من مركبات البوليمر والمغنيسيوم. ونحن نتعاون مع معاهد في قطر وتركيا لإجراء تقييمات الاستدامة وتطوير أنظمة الطباعة ثلاثية الأبعاد للمباني باستخدام نفايات مواد البناء المحلية. كما نجري أبحاثًا حول الطباعة ثلاثية الأبعاد للبلاستيك المعاد تدويره بهدف تحويل المواد البلاستيكية الضارة والخطرة إلى منتجات وتطبيقات مفيدة على الفور تقريبًا على أيدي أفراد المجتمع.
- تقديم الخدمات الاستشارية والإرشادية والتدريبية للجهات المحلية فيما يتعلق بتقارير واستراتيجيات تقييم الاستدامة.
ما دور الأتمتة؟
لطالما كانت الأتمتة جزءًا مهمًا من عمليات التصنيع في جميع القطاعات، باستثناء ربما قطاعات محددة مثل قطاع البناء. فقد ساعدت الأتمتة على زيادة الإنتاجية وخفض التكاليف. ومع ذلك، فقد تطورت عمليات الأتمتة وضوابطها والتصنيع الشبكي إلى تطبيقات أكثر تكاملاً لتمكين المصنع - أو حتى على مستوى المؤسسة - مع ظهور الثورة الصناعية الرابعة، باستخدام عناصر الذكاء والقدرة على التنبؤ ومن ثم الاستجابة. ويحدث هذا بشكل أساسي مع دمج الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات والأدوات التنبؤية في هذه العمليات، وهو ما يساعد في جعل عملية التصنيع والأصول بأكملها أكثر استجابة للتغيرات في الاحتياجات البيئية واحتياجات القوى العاملة. وفي النهاية، توفر الأتمتة عوامل تحقيق الكفاءة في استغلال الوقت والطاقة والموارد، وبالتالي ضمان توفير ظروف التصنيع المستدامة.
هل هناك أي مجالات أخرى؟
يُعدُ الجانب الاجتماعي من الجوانب والشروط المهمة، بصفته أحد ركائز الاستدامة، ويشكل بالتالي أحد عناصر التصنيع المستدام، حيث يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالبشر سواء كأفراد أو عائلات أو مجتمعات وأمم.
وللأسف، لا تحظى هذه الركيزة المهمة بالاهتمام الكافي في البحوث والمناقشات والأخبار المتعلقة بالاستدامة، حيث يميل الباحثون إلى تسليط الضوء على الاقتصاد والبيئة والطاقة والتكنولوجيا. ومع ذلك، فإن الغرض من تحقيق الاستدامة هو حماية الإنسان وبيئته الاجتماعية. وتؤثر المواقف والسلوكيات وعادات الاستهلاك والشراء والقرارات التي يتخذها البشر كأفراد وعائلات ومجتمعات وأمم بشكل عميق على ما إذا كان الشيء سيصبح مستدامًا أم لا.
والآلية الأكثر وضوحًا لتشكيل الركيزة الاجتماعية للاستدامة بشكل صحيح هي التعليم، بدءًا من الوالدين والأسرة والمدارس في نهاية الأمر. ومع ظهور الإنترنت والوسائط الرقمية والاجتماعية، من المثير للاهتمام أن الأفراد الصغار أو الكبار باتوا يقبلون على التعلم بشكل أكبر من وسائل التواصل الاجتماعي لأنها أصبحت الوسيلة التي نستخدمها بشكل أكبر في التفاعل والتواصل، ربما بشكل يفوق تواصلنا مع الأفراد المحيطين بنا في حياتنا اليومية. وبالتالي، فإن تصميم مبادئ التعليم الذكي وتطويرها وتنفيذها من أجل تحقيق الاستدامة، بالإضافة إلى المحتوى والمواد وأدوات التعلم المتعلقة بوسائل التواصل الاجتماعي كان من بين ركائز البحوث التي نجريها. ونحن نؤمن بشدة بأن التعليم سيتحول إلى الوسائط الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل أكبر، وبالتالي، فإننا نحتاج إلى أن نستبق هذه المرحلة لكي نتمكن من وضع الاستراتيجيات والمناهج والمواد التعليمية المناسبة لإعداد المواد التعليمية لأبنائنا من جميع الأبعاد.
يشغل الدكتور معمر كوتش منصب الأستاذ المؤسِّس لقسم الاستدامة بكلية العلوم والهندسة في جامعة حمد بن خليفة.