بينما تتأهب أوروبا لتلبية الطلب المتزايد على مصادر التدفئة خلال فصل الشتاء، ما هي تداعيات ذلك على اتفاقية باريس؟
بقلم الدكتور سعد شنَّك*
قبل الشروع في الإجابة عن سؤال مقالتنا بشكل كامل، بداية لنتفق على تعريف بعض المفاهيم، ومن ثم لنحاول الكشف عن الآثار المترتبة على العرض والطلب والأسواق المحلية والدولية، ولنناقش بعض الدروس المستفادة وأفضل الممارسات.
تُعَرِّف الوكالة الدولية للطاقة مصطلح ’ أمن الطاقة ‘بأنه التوافر المستمر وغير المنقطع لمصادر الطاقة بأسعار معقولة وفي الوقت المناسب وبشكلٍ مستدامٍ. انطلاقا من هذا التعريف، نجد اختلافا في مفهوم أمن الطاقة على المدى البعيد باعتباره وسيلة لإمدادات الطاقة في ظل التنمية الاقتصادية والمتطلبات البيئية، وأمن الطاقة على المدى القصير باعتباره طريقة لتمكين نظام الطاقة الحالي من الاستجابة الفورية للتغيرات المفاجئة في التوازن بين العرض والطلب. ومن الجدير بالذكر، أن أمن الطاقة على المدى القصير والبعيد يتطلب مجموعة معقدة وشاملة من المبادرات والسياسات المتوافقة لتلبية الأهداف الخاصة بالسوق وضمان مسار آمن لتوفير مصادر الطاقة.
بينما تُعَرِّف الوكالة الدولية للطاقة المتجددة مصطلح ’ تحول الطاقة ‘بأنه مسار يرمي إلى تحول قطاع الطاقة العالمي من الاعتماد على الوقود الأحفوري إلى تحقيق الحياد الكربوني. ويعدُ تطبيق ممارسات كفاءة الطاقة والطاقة المتجددة من الأمثلة على الخيارات التي يمكن أن تحقق 90٪ من تخفيضات انبعاثات الكربون المطلوبة. وهناك حاجة إلى توفير إطار إضافي للسياسات وأدوات السوق وتكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الذكية بهدف تسريع مسار تحقيق الحياد الكربوني.
النزاعات وإمدادات الطاقة
حدثت تغييرات تاريخية في عالم أنظمة الطاقة بفعل النزاعات التي اندلعت مؤخرًا. ومن المتعارف عليه أن اضطرابات سلاسل الإمداد الناتجة عن الأزمات تؤثر على جميع قطاعات الاقتصاد بما في ذلك قطاع الطاقة، حيث تعيق هذه الاضطرابات إمدادات الطاقة وتؤثر على أسعارها مما ينتج عنه أزمة تضخم. ومع وصول أسعار النفط إلى أعلى مستوياتها منذ عام 2008، تعاني العديد من المجتمعات مما يسمى ب "أزمة ارتفاع تكلفة المعيشة" مع ارتفاع فواتير الطاقة التي تؤثر على الأسر والشركات والاقتصادات بأكملها. ويواصل العالم خوض أزمة في سلسلة التوريد بعد انقضاء وباء كورونا بالإضافة الى البحث عن مصادر طاقة أكثر اخضرارًا وذات انبعاثات كربونية منخفضة. وبشكل عام، يرسل القادة المعنيون بالمناخ والطاقة إشارات متضاربة بما يتعلق في امن الطاقة وتحولها مما يخلق مزيدًا من الارتباك في سياسات الطاقة وقد يعرقل تحول الطاقة عن مسارها ويركز الاستثمارات على أمن الطاقة بدلا من تحولها.
كيف تتجاوب أوروبا؟
في أوروبا، أُعلِن عن العديد من المبادرات واقتُرحت العديد من الخطط لتقليل الاعتماد على الغاز الطبيعي الأجنبي وأصبح إيجاد الوسائل والحلول والبدائل لتحقيق ذلك ذو أهمية قصوى. ونظرًا لأنه من الصعب جدًا تحقيق ذلك بسبب ارتفاع الحصة الحالية للغاز الطبيعي الأجنبي في أسواق الاتحاد الأوروبي، دعا نشطاء ومحامون في الاتحاد الأوروبي إلى الاستثمار في الطاقة النووية والغاز الطبيعي كخيارات خضراء، وبالتالي تأمين المزيد من التمويل لهذه القطاعات. ووفقًا للبيانات الصادرة عن وكالة الطاقة الدولية، يمكن للاتحاد الأوروبي زيادة إنتاجه النووي بمقدار 20 تيرا وات في الساعة خلال عام 2022 كمصدر محتمل للهيدروجين. وعلى الرغم من ذلك، لن تساهم أي قدرات نووية إضافية في مزيج الطاقة المستقبلي قبل فترة تتراوح ما بين 6 إلى 10 سنوات والتي تمثل الفترة الزمنية الانشائية لهذه المشاريع. وقد قررت بلجيكا وألمانيا، في إطار جهودهما لتعزيز استقلالهما في مجال إمدادات الطاقة، الاستمرار باستخدام 6 جيجاوات من الطاقة النووية لمدة 10 سنوات قادمة، على عكس ما كان مقررا سابقا (وهو التخلص من هذا المصدر بصفة مبدئية في عام 2025). كما تعهدت ألمانيا بتخصيص حوالي 217 مليار دولار لإزالة الكربون من إمداداتها من الطاقة بحلول عام 2035.
وعلاوة على ذلك، التزم الاتحاد الأوروبي ببناء محطتين للغاز الطبيعي المسال لكي يحلا محل توريد الغاز الأجنبي. وهناك خطط معمول بها لتأجيل الإغلاق المخطط لمحطات الطاقة التي تعمل بالفحم الحجري، حيث ان الفحم أصبح أكثر قدرة تنافسية من الناحية الاقتصادية مقارنةً بالغاز. الا انه مع التزايد السريع في أسعار الغاز، يمكن ان تلجأ بعض الدول الى العودة إلى الاعتماد بشكل أكبر على خيارات الوقود الاحفوري مثل الفحم لتكلفتها الميسورة، مما قد يؤدي إلى حدوث انتعاش أبطأ وتغيير هيكلي في الطاقة العالمية. ويمكن تفسير ذلك على أن أهداف مكافحة تغير المناخ التي تعهد الاتحاد الأوروبي بها خلال مؤتمر الأمم المتحدة السادس والعشرين المعني بمكافحة تغير المناخ "كوب 26" لم تعد تمثل أولوية قصوى.
ومن المؤكد، ان العديد من خطط التعافي الحالية ترتكز على جوانب إمدادات الطاقة والأمن، تحديدا قبل أن يجتاح طقس الشتاء البارد أوروبا ويزيد الطلب على مصادر التدفئة، ولكن ما هي الآثار المترتبة على اتفاقية باريس؟ يعد الاتحاد الأوروبي في طليعة الدول التي تقوم بجهود استثنائية تهدف الى مكافحة تغير المناخ عبر الحد من الاحترار العالمي إلى أقل من 2 درجة مئوية ومتابعة الجهود المبذولة لخفضه إلى 1.5 درجة مئوية. وفي أواخر عام 2020، قدَّم الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء نسخة محدثة من مساهماتهم المحددة وطنياً وتتمثل في خفض الانبعاثات بنسبة 55٪ بحلول عام 2030 من المستويات المسجلة في عام 1990. لكن السؤال، هل ستستمر كل هذه الأهداف في الصمود؟
إعادة هيكلة أسواق النفط العالمية
وقد أدى هذا التعقيد المستمر إلى التزايد في تقلبات أسعار النفط. وسجلت أسعار النفط ارتفاعًا قياسيًا آخر مع ارتفاع تكاليف النفط والغاز وسط مخاوف من حدوث صدمة اقتصادية عالمية جراء النزاع الحالي. واقترحت الولايات المتحدة فرض حظر على صادرات الطاقة الروسية ونصحت الدول الأخرى بزيادة الإمدادات، على الرغم من أن ذلك قد يكون له تداعيات هائلة في جميع أنحاء أوروبا والعالم. علاوة على ذلك، وجهت إدارة بايدن الحالية عدة دعوات لمنظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) لطرح المزيد من النفط في الأسواق. وفي ضوء السياق الجيوسياسي الفوضوي الحالي، امتدت الأزمة إلى قطاعات أخرى حيث إن العديد من العناصر اليومية بدايةً من الغذاء إلى البنزين ومواد التدفئة، استمرت بالارتفاع بنسب أعلى من معدلاتها بما يزيد من تكاليف المعيشة.
ولا يتمثل الاستخدام الرئيسي للنفط والغاز في توليد الوقود والكهرباء فحسب، حيث توجد العديد من الاستخدامات الأساسية الأخرى في حياتنا اليومية في قطاعات مثل الإلكترونيات، والبناء، والطب، والزراعة، والاستخدامات المنزلية، وصناعة الملابس، وما إلى ذلك. وبالتالي، فمن المرجح أن تبقى صناعة النفط والغاز جزءًا من مزيج الطاقة العالمي لعدة عقود قادمة. ورغم أن هناك ضغوطات دولية هائلة للشروع في خفض الانبعاثات الكربونية لتلبية أهداف تغير المناخ، تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يرتفع الطلب على النفط بنسبة 11٪ وأن يصل إلى 103.5 مليون برميل من النفط يوميًا بحلول عام 2040 ليتجاوز الرقم القياسي المسجل في عام 2015 والمتمثل في 92.5 مليون برميل في اليوم. ويتلائم هذا جيدًا مع طبيعة صناعة النفط والغاز لأنها ليست مصدرًا لإمدادات الوقود الأحفوري فحسب، بل إنها أيضًا عامل تمكين أساسي للطاقة المتجددة. ويدعم الوقود الأحفوري مصادر الطاقة المتجددة كلما دعت الحاجة إلى ذلك بسبب الطبيعة المتقطعة لهذه المصادر. كما أنها تمثل السبيل للوصول إلى تكنولوجيا المستقبل مثل طاقة الهيدروجين.
أمن الطاقة وتكامل عمليات التحول
تعتبر إمدادات الطاقة بوجه عام من قضايا الفكر الاستراتيجي طويل الأمد ولا ينبغي أن تتأثر بالتوجهات التكنولوجية أو الأحداث الجيوسياسية. والأهم من ذلك، هو ان أمن الطاقة وعمليات التحول يسيران جنبًا إلى جنب. وبالنتيجة، يتطلب بناء التحول في الطاقة ضمان أمن الطاقة والعكس صحيح على المدى القصير والبعيد، لتعزيز استقرار العرض والحد من تأثير تعطل الإمدادات المستقبلية المحتملة في السوق. وتدور معظم المناقشات السياسية الحالية حول جانب إمدادات الطاقة، والحد من إمدادات الطاقة من الوقود الأحفوري، وكذلك إعادة تحديد الاستثمارات الموجهة للنفط والغاز لتلبية أهداف تغيّر المناخ. بالرغم من هذه الجهود، فقد تم إيلاء اهتمام أقل لما يتعلق بجانب الطلب. ويعد تغيّر المناخ في الأساس قضية قائمة على الاستهلاك، بمعنى آخر الطلب، وينبغي توجيه المزيد من التركيز على هذا الجانب من خلال تعزيز كفاءة الطاقة ومعالجة الاختناقات في هياكلها الأساسية.
قطر تقدّم مثالاً يُحتذى به
من الأهمية بمكان أن يتفهم المرء ضرورة الموازنة بين أهداف إمدادات الطاقة على المدى القصير والبعيد. فقد قدّمت قطر، بصفتها دولة مصدرة للطاقة، مثالاً يحتذى من خلال الالتزام بالتضامن في دعم إمدادات الغاز الطبيعي على المدى القصير لدول الاتحاد الأوروبي خلال أزمتها الحالية، وفي نفس الوقت استكشاف خيارات التوريد طويل الأجل مع الأسواق المستقبلية. وقد صرح سعادة المهندس سعد بن شريدة الكعبي، وزير الدولة لشؤون الطاقة في قطر والرئيس والمدير التنفيذي لشركة قطر للطاقة، لشبكة سي إن إن أنه على الرغم من أن قدرة قطر الحالية لا تلبي الطلب الأوروبي الكلي من الغاز، إلا أنها استثمرت 28 مليار دولار في مشروع توسعة حقل الشمال العملاق كخطة استراتيجية. ونتيجة لذلك، يتوقع سعادة الوزير أن ترتفع قدرات تصدير الغاز الى أكثر من 60٪ خلال أربع سنوات لتلبية الإمدادات المستقبلية طويلة الأجل. علاوة على ذلك، كشف الكعبي عن خطة إستراتيجية جديدة ستشهد تعزيز وتنويع التغطية الجغرافية لإمداد الغاز بحوالي نصف طاقة المحطة الجديدة باتجاه شرقي قناة السويس والنصف الآخر من الإمدادات المتوفرة غربي القناة. علما ان 80% من الغاز القطري الحالي يتم تصديره الى دول أسيوية ضمن عقود طويلة الاجل.
ومن المنطقي أن يدرك المرء موقف الحوكمة الرشيدة في قطر، من حيث الاستثمار المبكر في الغاز الطبيعي المسال، مما اتاح للبلاد ترسيخ مكانتها كواحدة من أكبر مصدري الغاز الطبيعي المسال في العالم. ومما أتاح أيضا للبلاد تحقيق التوازن بين إمدادات الطاقة قصيرة وبعيدة المدى عبر مختلف الأسواق هو قدرتها السوقية المؤثرة بالإضافة الى العلاقات السياسية الدولية المتينة.
في معهد قطر لبحوث البيئة والطاقة، نقوم بتطوير النماذج الاقتصادية بطريقة يمكن من خلالها معالجة أهداف العرض والطلب في قطاع الطاقة على المدى القصير والبعيد. كما تعد هذه النماذج أحد الخيارات لتقييم وتحديد مسارات تحول الطاقة بفعالية من حيث التكلفة وايضا الانبعاثات الكربونية. حيث انها توضح موضع التقنيات المطلوبة داخل نظام الطاقة وتحدد الأوقات المثلى للاستثمار.
بات من الواضح الآن أن هناك العديد من العوامل التي تؤثر على قطاع الطاقة والتي تشتمل على العرض والطلب والمناخ الجيوسياسية. لكن بعض هذه العوامل قابل للتحكم به والسيطرة عليه والبعض الاخر غير قابل لذلك، مما يجعل من الضروري بمكان أن يبدأ صانعو القرار في موائمة الأهداف الاستراتيجية لاستهلاك وتوريد الطاقة عبر القطاعات المختلفة وعلى المستويات المحلية والإقليمية والدولية لتعزيز الاستخدام الأمثل واستدامة الموارد على المدى القصير والبعيد.
* يشغل الدكتور سعد شنَّك منصب عالم في معهد قطر لبحوث البيئة والطاقة، التابع لجامعة حمد بن خليفة، عضو مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع.
ملاحظة:
هذا المقال مقدَّم من إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابةً عن الكاتب. والآراء الواردة في هذا المقال تعكس وجهة نظر الكاتب، ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.