مقال رأي المرحلة الثانية من فكّ الحجر: دروس وحقائق في السياسة العامة مستقاة من الأشهر الستة الماضية
بقلم الدكتور ليزلي بال
مع إعادة فتح الدول والمدن حول العالم، نسمع، بالتوازي مع الأخبار السارة، عن العديد من النكسات وارتفاع حالات الإصابة بالفيروس وإعادة الإغلاق. وبالرغم من أننا لا نزال نجهل الكثير عن كوفيد-19، إلا أن الأشهر الستة الماضية قد علمتنا خمسة دروس أساسية، بالإضافة إلى حقيقة واحدة كبرى.
يتجلى الدرس الأول في وضوح الأمر الذي نتعامل معه. فعدد الحالات يخبرنا عن أمر مهم، وعندما تزداد تلك الحالات من الطبيعي أن نشعر بالقلق. لكن من الضروري الإشارة بأن الحالات هي مجرد حالات، كونها تُعلمنا حول الإصابات، ونسب تفشيها وانتشارها، لكنها يُمكن أن تكون أيضاً مضللة. فعدد الحالات، على سبيل المثال، هو ناتج جزئياً عن عدد الاختبارات التي نُجريها. ومع انتشار الفيروس لدى السكان، فإن إجراء المزيد من الاختبارات يعني ببساطة احتمال اكتشاف المزيد من الحالات.
ويترافق الازدياد المطرد في عدد الحالات باحتمال كونه نتيجة لإجراء المزيد من الاختبارات. والنقطة الأخرى التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار هي أن عدد الحالات يُغفل الإشارة إلى نسب التعافي أو الوفيات. إذ يُمكن لعدد حالات الإصابة أن يرتفع، ومعه كذلك عدد حالات الشفاء. ويُمكن للوفيات أن تبقى مستقرة أو تزداد بنسبة أقل من العدد الإجمالي لحالات الإصابة بالفيروس. وللأسف، فإن دول على غرار قطر وسنغافورة لديها من بين أعلى النسب المئوية فيما يتعلق بالإصابة، ولكن الأدنى في عدد الوفيات.
والحقيقة الثانية التي تعلمناها خلال الأشهر الستة الماضية هي أن فيروس كوفيد-19 يؤذي الضعفاء بقسوة أكبر. وتُشير آخر الإحصاءات في ولاية نيويورك بأن الأشخاص في الشريحة العمرية 65-74 هم أكثر عرضة بثلاثة أضعاف للوفاة نتيجة الإصابة بكوفيد-19 من أولئك الذين تتراوح أعمارهم ما بين 45 و64 عاماً، وأكثر عرضة بثلاثين ضعفاً من الشريحة العمرية 18-44. ولا غرابة بعد ذلك أن تكون دور المسنين، في دول كثيرة، هي نقطة تركز الإصابات والوفيات.
ويكمن الاستنتاج الأساسي لهذين الدرسين، في هذه المحطة من الجائحة، مع تسطيح منحنى الإصابات والدخول إلى المستشفيات، في ضرورة عدم الجزع عند ارتفاع عدد الحالات أحياناً. فهذا أمر منتظر مع إجراء عدد أكبر من الاختبارات. ومن المهم أكثر الانتباه إلى نسب الشفاء والوفاة، والتأكد من توفير الحماية الكافية للشرائح السكانية الأكثر هشاشة.
أما الدرس الثالث فهو عدم الشعور بالرضا. لقد بدأت العلوم الطبية حول كوفيد-19 بكشف النقاب عن الكثير حول نسب انتشاره وتأثيره على الأعضاء المختلفة، فضلاً عن سُبل الرعاية، حتى دون أدوية، التي من شأنها تخفيف العوارض. لكن يبقى الحذر واجباً. ومن الضروري تجنب ما يُعرف باللغة الإنجليزية “three Cs”، وهي المحظورات الثلاثة، وجعلها رسالة صحية عامة كما أتقنت ذلك اليابان. تجنب المساحات المغلقة ذات التهوية السيئة، وتجنب الأماكن المزدحمة، وتجنب الحالات التي تتضمن التواصل القريب. وبالطبع فمن الضروري جداً البقاء بعيداً عن الحالات التي تتلاقى فيها المواقف المذكورة أنفاً، أي المساحات المغلقة والمزدحمة والتي تتضمن التواصل القريب. ارتدِ كمامة في الأماكن العامة، واستخدم المطهرات باستمرار.
ويتمثل الدرس الرابع، لا سيما خلال فترة فكّ الحجر، في ضرورة استيعاب أن هذه المرحلة لا تعني عودة فورية إلى الحياة المعتادة. فمن الطبيعي أن يكون الناس تواقون للعودة إلى المطاعم والحدائق والاستعراضات والصفوف الدراسية والاجتماعات العائلية. لكن، كما تشهد إجراءات إعادة الإغلاق في بعض الولايات الأمريكية، على غرار تكساس وكاليفورنيا، يُمكننا ملاحظة نتائج تحرّك الحكومات بسرعة أو إهمال السكان للمنطق السليم. ستكون مراحل فكّ الحجر معنا لأشهر طويلة مقبلة، ويجب علينا الحفاظ على التباعد الاجتماعي وغيرها من الإجراءات الاحترازية لغاية فصل الخريف على الأقل.
وهذا هو الدرس الخامس والقاسي بالفعل. فمع فكّ الحجر سيكون هنالك ثمة مراحل و"بوابات"، كما تُشير اللغة المتداولة في مراكز مراقبة الأمراض، فضلاً عن مؤشرات للنجاح أو الفشل. إذ يُمكن لحالات الإصابة أن تزداد، دونما أن يشكّل ذلك ضوءاً أحمر، كون ذلك قد يستوجب الحيطة والحذر وليس إعادة الإغلاق. وعلى صناعة السياسات المسؤولة التحكّم بمراحل فكّ الحجر من خلال إجراءات سلامة مدروسة بعناية. لا شك بأن تناول الطعام في أحد المطاعم سيكون مرهقاً على سبيل المثال، وفي حال تدهور الأوضاع، يتوجب علينا انتظار تعديلات أو حتى إجراءات معاكسة.
هذه دروس صغيرة، لكنها في غاية الأهمية، كونها تُمثل خلاصة تجربتنا الجماعية خلال الأشهر الماضية. وهي تكشف النقاب عن حقيقة كبرى، تُعتّم عليها النقاشات، حول تعقيد الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية الحديثة. ففي نهاية الأمر، فإن الكثير مما يجعل هذا التعقيد قابلاً للتطبيق هو الالتزام الفردي، والمنطق السليم، والحذر. وهذه ليست حقيقة معترف بها كثيراً هذه الأيام. يعتمد كل شيء لدى المفكرين اليساريين على التاريخ والإطار، فيما يكون الأشخاص مجرد دُمى للماضي غير العادل. وبالنسبة للمفكرين اليمينيين، ممن يركزون على فرض القانون والنظام، يتوجب على الأشخاص الاستماع لما يُطلب منهم. أما بالنسبة للتكنوقراط، فكل شيء يتمحور حول تصميم السياسة المناسبة من أجل تحفيز الأشخاص وحثّهم على القيام بالعمل الصحيح.
بالطبع فإن الإطار مهم. والأشخاص الذين لا توجد لديهم إمكانية الوصول إلى المياه النظيفة لن يكون بمقدورهم تطهير أنفسهم. كما أن العمال الوافدين الذين يعيشون في مساكن مكتظة ليسوا قادرين على تجنب المحظورات الثلاثة. ومن المحتم على الدول التي تتميز بارتفاع معدل أعمار سكانها وسوء إدارة دور المسنين فيها أن تعاني من معدلات وفاة مرتفعة نتيجة لانتشار كوفيد-19، مهما تميز الأشخاص بقدر عالٍ من المسؤولية. لكن الإطار والسياق العام والتشريعات لا تحكي القصة كاملة، لأن الجائحة أظهرت أهمية العمل الفردي. وتتجلى الأمثلة على ذلك في قيام الوالدين بحماية أطفالهم، وتعليمهم في المنازل. والتزام الأشخاص بالتباعد الاجتماعي في الحدائق العامة، وارتداء الكمامات، وغسل اليدين. كما تقع المسؤولية على صانعي القرار في تصميم الرسائل والتشريعات وتطبيقها، وتحديد المحظورات، لكن عدم الالتزام قد يعرضها كلها إلى خطر الفشل.
ولقد شاعت في أوساط صانعي السياسات خلال الأعوام الأخيرة فكرة "الدفع برفق"، حيث أنه من الأفضل اللعب على دافع اللاوعي لدى الأشخاص لحثّهم على القيام بالعمل الصائب. لكن الجائحة قد أظهرت لنا حدود هذه المقاربة. من هنا، يتوجب على الأشخاص أن يكونوا رصينين، وواعين، ومسؤولين، وحذرين، وعقلانيين. وهذا ينطبق على التعامل مع التلوث، والتغيّر المناخي، وغيرها من التحديات الجماعية، كما هو الحال مع هذه الجائحة.
يشغل الدكتور ليزلي بال منصب العميد المؤسس لكلية السياسات العامة في جامعة حمد بن خليفة.
ملاحظة:
هذا المقال مقدَّم من إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابةً عن الكاتب. والآراء الواردة في هذا المقال تعكس وجهة نظر الكاتب، ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.