تأليف الدكتور جافين بيكين، الأستاذ بكلية الدراسات الإسلامية
أصبح الصيام المتقطع اتجاهًا شائعًا للصحة والتغذية في السنوات القليلة الماضية، وهذه الممارسة لها العديد من الفوائد الصحية المُثبتة ومنها تحسين التفكير والذاكرة، والحفاظ على صحة القلب، وكذلك الارتقاء باللياقة البدنية، حيث يساعد الصيام أيضا في تقليل السمنة ومقاومة الأنسولين، وهما مسببان رئيسيان في مرض السكري من النوع الثاني. ومن المثير للاهتمام ملاحظة أن المسلمين على مدار القرون الماضية مارسوا شكلًا من أشكال الصيام المتقطع كجزء من عبادتهم الدينية المعتادة، ومع ذلك، فإن الفوائد الصحية للصيام المتقطع التي لاحظها العلم المعاصر، تُعتبر شيئًا ثانويًا تمامًا بالنسبة للمسلمين، ذلك لأنهم عندما يصومون شهر رمضان، فإنهم لا يسعون في المقام الأول إلى تحسين الصحة بقدر ما يعتبرونه التزامًا دينيًا يُعد أحد أركان الإسلام الخمسة.
منذ فرضه على المسلمين في السنة الثانية بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة (624 م) ، أصبح صيام شهر رمضان عبادة دينية سنوية ذات أهمية تاريخية وحضارية، والتي لا يزال يحتفل بها المسلمون في جميع أنحاء العالم، وفي الوقت الذي تُمارس فيه الأديان الأخرى مجموعة متنوعة من أشكال الصيام، إلا أن شهر رمضان يُعتبر فريدًا من نوعه بالنسبة للمسلمين، وتزداد أهميته من خلال نزول القرآن أيضًا في هذا الشهر الكريم، وفي الواقع، هناك العديد من الأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بأهمية وقدسية شهر رمضان، وربما يكون أحد أكثرها أهمية هو ذلك الحديث النبوي الذي سجله الإمام مسلم (المتوفي في العام 261 هجري/ و875 ميلادي) في كتابه المُوثق بدقة (صحيح مُسلِم): “إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وصُفدت الشياطين”، (رقم 1079).
وإذا أخذنا ظاهر هذا الحديث النبوي الشريف، فإنه يُعطي الكثير من الدعم والتشجيع للمسلمين الصائمين، لأنه يشير إلى أن أحد أهم تحدياتهم قد تم تحييده مؤقتًا وهو الشيطان، ورغم ذلك، فإن كثير من علماء المسلمين قد جمعوا العديد من الأحاديث حول هذا الموضوع، وكانوا أكثر تحفظًا في تفسيرهم له، مُشيرين إلى أن الشياطين المذكورة في النص هي من نوع معين يشار إليه باسم "مَرَدة الشياطين" (المَرَدَة)، وهذه الفئة من الشياطين مذكورة في القرآن الكريم ومنها في الآية 6 من سورة (الصافات): " إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ "، وتتميز هذه الشياطين بأنها عاصية وخبيثة وجامحة، وهكذا، فرغم أن الشياطين ليست كلها مقيدة بالسلاسل خلال شهر رمضان، إلا أن أولئك الذين يُظهرون أكبر قدر من العداوة والمكر تجاه الإنسانية، يتم السيطرة عليهم على الأقل.
لذلك ليس من المستغرب أنه خلال شهر رمضان لا تتعطل جميع المؤثرات السلبية، ولكن الصيام نفسه له تأثير إيجابي مباشر على قدرة الشيطان على التأثير في النفس البشرية، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الشَّيْطَانَ يَجْرِي من ابن آدم مَجْرَى الدَّمِ"، وهكذا، فإن الصوم نفسه يحد من تأثير الشيطان على نفس الانسان من خلال تثبيط سلوكها في البحث عن المتعة، ومنع عاداتها السيئة، وإضعاف رغباتها والحد منها.
وربما لهذا السبب يشير رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا إلى شهر رمضان على أنه شهر الصبر، لأن الصبر يساهم في تقييد النفس البشرية من رغباتها ويجبرها على إطاعة أمر ربها، ويرتقى بالروح، وقد رُوي عن رسول الله صلى الله وعليه وسلم، أنه قال: "الصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ [أخرجه الترمذي]"، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "الصبر نصف الإيمان"، وبالتالي فمن هذا المنظور، يمكن اعتبار الصيام ربع إيمان المسلم.
وتُعتبر كلمة "الصيام" الكلمة العربية المرادفة لصيام شهر رمضان باعتباره واجب شرعي والتي ترتبط لغويًا بكلمة "صوم"، والتي تعني الامتناع، وهذا واضح في القرآن الكريم في الآيتين 25 و26 من سورة مريم، فيما يتعلق بمولد النبي عيسى عليه السلام، إذ قيل لمريم: "وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، كُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا"، وهكذا، "يمتنع" المسلمون عن تناول الأكل والشرب والعلاقات الجنسية من الفجر حتى غروب الشمس خلال شهر رمضان، ومن ثم فهذا هو "صيامهم".
ومع ذلك، يمكن ملاحظة أنه في حين أن الصوم هو شكل مادي بحت من أشكال العبادة لكثير من الناس، فإن البعض يتجاوز هذا الفعل الجسدي البحت ويوسع نطاقه إلى ذواتهم الروحية، وبالتالي، فهم لا يمارسون الامتناع عن الطعام والشراب فحسب، بل يرتقون بحواسهم أيضا إلى منع أسماعهم وأبصارهم وكلماتهم وحركاتهم وأفكارهم عن أي شيء يتسبب في ارتكاب ذنب أو معصية، وهكذا فإن صيامهم لا يتوقف عند الجسد فقط، بل يمتد إلى الوعي بالامتناع عن كل ما هو مستهجن وهو الهدف الأساسي من الصيام كما هو مبين في الآية القرآنية التي بادرت بفرض الصيام: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" الآية (183) سورة البقرة. ولهذا السبب أيضًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، و"ربَّ صائمٍ ليسَ لَه من صيامِه إلَّا الجوعُ"، وهكذا ، يمكن لشخص ما أن يكون "صائمًا"، أي يفي بالمتطلبات الجسدية للصوم، لكنه في الواقع يفتقد جوهره، وهو إيقاظ العقل والقلب والروح، ليتركز انتباه المرء إلى عبادة الله.
وختامًا، فإذا كنا أثناء الصيام في شهر رمضان، ما زلنا نشعر بالضجر من قائدي السيارات على الطريق، ونشعر بالضيق من زوجاتنا، ونغضب من أطفالنا، فنحن بحاجة إلى تأمُل أنفُسنا جيدًا، والتفكير في نوع الصيام الذي نمارسه، فضلًا عن التفكير في كيفية انعكاس ذلك على أرواحنا وحالتنا المزاجية، وكيف يمكننا تغيير أنفُسنا قبل أن يزورنا رمضان مرة أخرى إن شاء الله.
ملحوظة: تم نشر هذا المقال في صحيفة "ذا بينينسولا" القطرية.