ذبابة الفاكهة تفتح آفاقًا جديدة لأبحاث علاج التوحد

أثبتت كلية العلوم الصحية والحيوية بجامعة حمد بن خليفة ريادتها في استخدام نماذج بحثية تعتمد على ذبابة الفاكهة في دراسة اضطراب طيف التوحد واضطرابات النمو العصبي الأخرى.

الهيئة:  كلية العلوم الصحية والحيوية
ذبابة الفاكهة

في غضون عقديْن فقط من الزمن، شهد عالم الاكتشافات الجينية تحولًا جذريًا بفضل ظهور دراسات الترابط الجينومي الكامل (GWAS) وعمليات تحليل التسلسل الكامل للجينوم والإكسوم (WGS/WES). فقد كشفت هذه الجهود البحثية النقاب عن أُفقٍ شاسعٍ من عوامل الخطر الجينية المتشابكة مع مجموعة واسعة من الاضطرابات البشرية، ومع ذلك، وفي خضم هذه الاكتشافات الوفيرة، لا يزال التحدي الأساسي قائمًا، ألا وهو القدرة على ترجمة المعرفة الجينية إلى أخرى إكلينيكية قابلة للتطبيق. فعلى الرغم من النجاح الملحوظ الذي تم تحقيقه في تحديد المواقع المُعرضة للأمراض، تظل ترجمة هذه النتائج إلى رؤى إكلينيكية قابلة للتطبيق ضيقة النطاق، إذ تم التحقق من وظائف عددٍ محدود فقط من هذه المواقع، وبالتالي، لا تزال هناك فجوة معرفية كبيرة تحيط بالسياق البيولوجي للعديد من المواقع المعرّفة على أنها نقاط خطر.

في سياق الاضطرابات العصبية المعقدة، وعلى رأسها التوحد، أحدثَ التقدمُ السريع في تقنيات تسلسل الجيل التالي طفرةً في عالم الاكتشافات الجينية، فقد أسفر هذا التدفق الغزير من البيانات عن مجموعة متعددة من الجينات والتغيرات المرتبطة في هذه الاضطرابات، ويظلُّ علم الأحياء قادرًا على إثارة الدهشة بكشفه حتى عن أضعف الروابط مع الأمراض بين تلك التي تم رصدها من خلال علم الأحياء الحاسوبي، ليذلّل بذلك الطريق لمزيدٍ من الجهود البحثية، ولكن ما لم يتغيّر هو أن البحث في أسباب الأمراض يحتاج إلى إجراء تجارب معقدة داخل مختبرات مجهّزة بعناية بالغة الدقّة، وهنا ظهرت ذبابة الفاكهة، جنبًا إلى جنب مع كائنات ثديية و غير ثديية كالفئران والديدان الأسطوانية وسمك الزيبرا، كأدوات لا غنى عنها لإتمام هذه التجارب.

وعلى الرغم من أهمية الفئران والجرذان في أنشطة البحث العلمي ذات الصلة، إلا أن ذبابة الفاكهة تُظهر خاصية تميزها عن نظرائها الثدييات بتوفير تقييم سريعٍ بتكلفةٍ منخفضة لتأثيرات السلالات الجينية المتغيرة في كائنات تتصف بغنى سلوكياتها، وقد ساهمت آخر الاكتشافات الثورية التي اعتمدت على هذه النماذج في تسريع تشخيص الأمراض الجينية وتسليط الضوء على طرق علاجية محتملة، والتي لم تكتشف أسرار الأمراض النادرة وحسب، بل أزاحت الستار عن نسيجٍ أوسع لآليات الأمراض ووظائف الجينات، ومهّدت الطريق لمزيد من الاكتشافات في المستقبل.

ونظرًا لتميزها بخصائص متعددة الاستخدامات ومخزنًا واسعًا من موارد يمكن استخدامها في الجينات، يأتي استعمال ذبابة الفاكهة في صدارة الجهود المبذولة لفك شيفرة علم أمراض الإنسان المعقدة. توفّر الدراسات القائمة على ذبابة الفاكهة منصة استثنائية تتيح إجراء التجارب على نطاق واسع، مستعينة بمجموعة متنوعة من الأدوات الجينية التي يسهل الوصول إليها، وعلى الرغم من الاختلافات الجوهرية بين ذبابة الفاكهة والإنسان، يظهر تقارب ملحوظ بينهما في المجالات الفيسيولوجية والجزيئية والجينية، وتعتبر ذبابة الفاكهة بمثابة بديل فعال، حيث يحتضن دماغها المكتمل مجموعة متنوعة من الخلايا العصبية، ومن اللافت للنظر أن حوالي 75% من الجينات المرتبطة باضطراب طيف التوحد تجد نظائر لها في ذبابة الفاكهة.

للعمليات البيولوجية التي تقف وراء اضطراب طيف التوحد شبيهٌ ملحوظٌ في ذبابة الفاكهة على المستويات الجزيئية والخلوية والعصبية التشابكية، فمن اللافت بشكل خاص أن العديد من الظواهر المرتبطة باضطراب طيف التوحد تجد نظيرًا لها في ذبابة الفاكهة، بما في ذلك السلوكيات الأساسية مثل اضطرابات التعلم، والأنشطة المتكررة، والتفاعلات الاجتماعية. وهذا ينطبق أيضًا على العديد من السلوكيات المصاحبة مثل القلق، واضطرابات النوم، والصرع، واضطرابات الأكل، وكذلك تشوهات النمو العصبي، مثل صغر أو كبر حجم الرأس وكثافة التشابك العصبي، وفي ظل هذا المشهد المعقد، تظهر ذبابة الفاكهة كأداة قوية لسبر أغوار اضطراب طيف التوحد.

وفي الحالة الفريدة لدولة قطر، حيث يتفوق انتشار اضطراب طيف التوحد بشكل طفيف على التقديرات العالمية، وتساهم الجينات في أكثر من 83٪ من الحالات العائلية، تتخذ التحديات المتمثلة في التعرف على جينات الخطر وفهم آلياتها المرضية أبعادًا متعددة الأوجه. ومن الجدير بالذكر أن غياب منشأة لإجراء البحوث العصبية والسلوكية على الفئران يضيف مستوىً جديدًا من التعقيد لهذه المساعي، ووسط هذه التحديات، تظهر ذبابة الفاكهة كأداة لا تُقدر بثمن.

وعلى رأس المساعي النوعية في هذا المجال من البحث، يتجمع تحالف عالمي من العلماء حول مختبر البروفيسور هيوغو بيلين في كلية بايلور للطب، متحدين في جهودهم للتحقق من الاختلافات الجينية وفك شيفرة آليات المرض، وقد كشفت جهودهم المشتركة النقاب عن جذور 35 مرضًا بشريًا خلال خمس سنوات فقط، وسلّط هذا الإنجاز الضخم الضوءَ على آليات المرض المعقدة، مما فتح آفاقًا جديدة للتدخلات العلاجية، ويعود جزءٌ كبيرٌ من الفضل في ذلك لذبابة الفاكهة، إذ ساهمت بدفع مجال العلوم الطبية نحو مناطق غير مستكشفة من قبل، وأدت دورًا هامًا في تحسين الحياة البشرية.

ومن جانبها، فقدت أثبتت كلية العلوم الصحية والحيوية بجامعة حمد بن خليفة ريادتها أيضًا في استخدام نماذج بحثية تعتمد على ذبابة الفاكهة في دراسة اضطراب طيف التوحد واضطرابات النمو العصبي الأخرى.  وقد نُشرت أحدث إسهامات الكلية في مجلات علمية مرموقة، مثل مجلة "الاضطرابات العصبية النمائية" ومجلة "بلوس بيولوجي"، حيث تُبرز جهود الكلية في دقة النمذجة وفهم الآليات الجزيئية المرتبطة بالتوحد. ويستهدف الباحثون، في استخدامهم لذبابة الفاكهة، جينًا يُعرف ببروتين الربط أحادي الشريط 3 (SSBP3/Ssdp)، الذي سبق الاشتباه بارتباطه باضطرابات النمو العصبي والتوحد، للكشف عن أوجه الاختلال النمائي والمورفولوجي والجزيئي والخلوي والسلوكي التي تتوافق مع التحديات المرتبطة بطيف اضطرابات التوحد. وبتطويع مزايا ذبابة الفاكهة، والاستناد إلى أدوات جينية وجزيئية، يكشف الباحثون أيضًا عن آليات جزيئية غير مُعْرَفة حتى الآن، من خلال بروتين الربط أحادي الشريط 3 داخل دماغ ذبابة الفاكهة.

هذه الجهود مجتمعة تبيّن مدى الفائدة العلمية الكبيرة التي قد تنبثق من أكثر الكائنات تواضعًا، كذبابة الفاكهة، كما أنها تقدّم نسيجًا غنيًا من المعرفة لفهم الأمراض البشرية الأساسية وتمهيد الطريق نحو استراتيجيات التدخل والمزيد من الأبحاث الواعدة، واختبار العقاقير مثال واضحٌ على ذلك، حيث يقوم الباحثون في مركز علاج السرطان بجامعة ماساتشوستس حاليًا باستخدام ذبابة الفاكهة لاختبار تأثير مجموعة من العقاقير المعتمَدة من إدارة الغذاء والدواء وقدرتها على تخفيف أعراض الأمراض، ومن المؤكد أن العلماء المنخرطين في أبحاث التوحد سيراقبون هذه التجارب باهتمام كبير، خاصة إذا كشفت عن فرص جديدة للاستفادة من ذبابة الفاكهة في أبحاثهم.

*الدكتور محمد فرحان أستاذ مساعد في كلية العلوم الصحية والحيوية بجامعة حمد بن خليفة.

قامت إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة بإعداد هذا المقال بالنيابة عن كاتبه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عنه ولا تعكس بالضرورة موقف الجامعة الرسمي.