الدراسات السريرية التطبيقية وجدواها للعلوم

حوار مع الدكتورة جولي ديكوك - عالِمة في مركز البحوث التطبيقية للسرطان والمناعة بمعهد قطر لبحوث الطب الحيوي

الهيئة:  معهد قطر لبحوث الطب الحيوي
توفر العلاجات الموجهة الأمل للأشخاص الذين يعانون من العديد من الأمراض في جميع أنحاء العالم

في عصر الطب الدقيق، تقدم العلاجات الجديدة المستهدفة للسرطان لمحة واعدة عن مستقبل أبحاث السرطان وتمنح الأمل للملايين.

وفي العقود التي تلت استخدام أول تجربة منضبطة معشاة لتقييم علاجات السرطان، تَمَكَن المرضى من الوصول إلى العديد من العلاجات الجديدة والمبتكرة في كثير من الأحيان عبر المشاركة في التجارب السريرية. وبرهنت الجهود المبذولة لتحسين النتائج العلاجية للمرضى مع ضمان الاستخدام الاقتصادي للموارد على أن التجارب التطبيقية القائمة على تحقيق القيمة تؤدي دورًا مهمًا في هذا الصدد. وتكون هذه التجارب صغيرة في الغالب وتركز على الأنواع الفرعية النادرة من الأورام الشائعة، ولكنها توفر بيانات وأدلة مهمة لفهم فعالية الدواء.

ومن بين الأمثلة على ذلك دراسة حديثة أُجريت في مركز ميموريال سلون كيترينج للسرطان بمدينة نيويورك، حيث خضع 14 مريضًا - يعانون من حالة موضعية متقدمة من سرطان المستقيم في المرحلة الثانية أو الثالثة من المرض مصحوبًا بنقص في جين إصلاح عدم التطابق - للعلاج بدواء يسمى دوستارليماب لمدة ستة أشهر، وكانت النتيجة هي تخلص جميع المرضى من الأورام التي كانوا يعانون منها. وقد نُشرت هذه الدراسة الأولية في دورية "نيو إنجلاند للطب"، ومن المتوقع الآن إجراء تجارب سريرية أكبر مع متابعة المرضى لفترة أطول لتقييم مدة الاستجابة لهذا الدواء.

كثيرًا ما يُطلق على التجارب المنضبطة المعشاة مصطلح "المعيار الذهبي" للبحوث الطبية. ما الدور الذي تؤديه تلك التجارب في البحوث التطبيقية، في ظل تركيزها على نقل الاكتشافات إلى الممارسة السريرية؟

التجربة المنضبطة المعشاة هي الطريقة الأكثر دقة وقابلية للتكرار لتحديد سلامة وفعالية أي تدخل أو علاج جديد، وغالبًا ما تُستخدم لتوجيه قرارات الممارسة السريرية. وتتضمن ميزة التحديد الرئيسية تخصيص الأشخاص بشكل عشوائي لمجموعة تجريبية أو مجموعة منضبطة، وهو ما يسمح بإجراء مقارنة مباشرة لتأثيرات العلاج الجديد بالمعيار الحالي لخطة العلاج في الرعاية الصحية. وكثيرًا ما يُستخدم نهج مماثل في البحوث التطبيقية قبل السريرية.

فعلى سبيل المثال، نحن نطبق مبادئ مماثلة في عملنا بمركز البحوث التطبيقية للسرطان والمناعة في معهد قطر لبحوث الطب الحيوي، التابع لجامعة حمد بن خليفة، لدراسة آثار الأهداف العلاجية الجديدة في مقاومة السرطان. وقد أدت الجهود الأخيرة التي بذلها فريقي البحثي إلى التعرف على جزيء يعرف باسم "نازعة هيدروجين اللاكتات سي" باعتباره مرشحًا جديدًا للعلاج المركب، حيث يمكن استخدام الأدوية التي تعمل على مقاومة هذا الجزيء مع الأدوية الحالية المضادة للسرطان بهدف تحسين فعالية علاج مرض سرطان الثدي.

وتجدر الإشارة إلى أن دراسة دوستارليماب ليست دراسة منضبطة معشاة، ولكنها دراسة أحادية الذراع، أي أن جميع المرضى تلقوا دواء دوستارليماب قبل الجراحة وقُيِّمت استجابتهم للدواء عبر التصوير بالرنين المغناطيسي للمستقيم والفحص البصري بالمنظار. ومن المحتمل أن اختيار تصميم الدراسة كان موجهًا نظرًا للعدد المحدود من المرضى المصابين بهذا النوع المحدد من سرطان المستقيم (الذين يشكلون نسبة تتراوح ما بين 5-10٪ من جميع مرضى سرطان المستقيم)، وهو ما يجعل من غير العملي استقطاب عدد أكبر من المرضى لإجراء دراسة منضطبة معشاة خلال مدة زمنية معقولة.

في ضوء صغر حجم التجربة، ما مدى حذرك أو تفاؤلك إزاء النتيجة بصفتك عالِمة؟

في الوقت الحالي، تشتمل معايير الرعاية للمرضى  المصابين بحالة موضعية متقدمة من سرطان المستقيم مع نقص في جين إصلاح عدم التطابق على العلاج الكيميائي والإشعاعي بالإضافة إلى الجراحة. وتشير النتائج المؤقتة لهذه الدراسة إلى أن العلاج باستخدام دواء دوستارليماب قبل الجراحة قد يقضي تمامًا على الحاجة إلى العلاج الإشعاعي للحوض والجراحة، وهو ما يمنع حدوث آثارها الجانبية الدائمة على الخصوبة والصحة الجنسية ووظيفة الأمعاء والمثانة. ويمكن أن يكون لهذا الأمر تأثير كبير على نوعية حياة المرضى، لا سيَّما بالنظر إلى أن سرطان المستقيم أصبح أكثر شيوعًا لدى الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 50 عامًا. ومع ذلك، لا يزال يتعين علينا أن ننتظر لنرى ما إذا كانت هذه الدراسة ستؤدي إلى طرح نظام علاجي جديد. وبشكل عام، يمكن أن تنمو هذه الأنواع من الأورام مرة أخرى في غضون عامين بعد تقديم العلاج الاعتيادي. لذا، فإن السؤال المهم الذي يطرح نفسه هنا هو ما إذا كان يمكن للمرضى ألا يتعرضوا للمرض مجددًا بعد فترة المتابعة الحالية البالغة 6.8 شهرًا. وبصفتي عالِمة، أعتقد أن نتائج الدراسة واعدة وأتطلع إلى الاطلاع على نتائجها النهائية.

هل هذه النتائج مفاجئة أم يمكن توقعها؟

يُعدُ دواء دوستارليماب، وهو شكل من أشكال العلاج المناعي،  أحدث ركيزة في علاج السرطان. وقد أحدث العلاج المناعي تغييرًا جذريًا في مستوى رعاية المرضى المصابين بالسرطان خلال العقد الماضي، ووقع عليه الاختيار من محرري مجلة "ساينس" العلمية باعتباره أهم تطور طبي في عام 2013.

ويمكن للأورام أن تمنع القضاء عليها / قتلها من خلال استجابتنا المناعية الطبيعية عن طريق كبح هذا النظام. وينبع النجاح الرئيسي للعلاج المناعي من فئة من الأدوية تسمى مثبطات نقطة التفتيش المناعية التي تزيل/ تقضي على هذه المكابح. ويُعدُ دواء دوستارليماب أحد هذه الأدوية، حيث يثبط بروتين نقاط التفتيش المناعية المعروف باسم PD-1، وهو ما يؤدي إلى إطلاق الاستجابة المناعية أو إعادة تنشيطها. وقد ثبت بالفعل أن هناك مثبطًا مشابهًا، وهو دواء بمبروليزوماب، يقلل أو يقضي على الأورام لدى 77 ٪ من المرضى المصابين بحالة موضعية متقدمة من سرطان المستقيم مع نقص في جين إصلاح عدم التطابق الذين انتشر السرطان لديهم إلى أنسجة أخرى. وبناءً على ذلك، كان من المحتمل نوعًا ما أن ينطبق هذا الأمر أيضًا على المرضى الذين يعانون من أورام موضعية متقدمة.

وقد حظيت هذه النتائج الإيجابية أيضًا بالدعم بفعل العدد الكبير من طفرات الحمض النووي الموجودة في أورام المستقيم لدى المرضى  المصابين بحالة موضعية متقدمة من سرطان المستقيم مع نقص في جين إصلاح عدم التطابق، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى حدوث هجوم مناعي ضد الخلايا السرطانية ذات المظهر الشاذ للغاية. وعلى هذا النحو، يمكن أن يعيد العلاج بدواء دوستارليماب تنشيط الجهاز المناعي للتعرف على الخلايا السرطانية الشاذة والمصابة بالطفرات والعمل على مقاومتها. وتُعدُ عملية تحديد الميزات التي تزيد من احتمالية استجابة الأورام للعلاج المناعي من المجالات البحثية المهمة والمواتية للغاية، حيث تُشكل جزءًا لا يتجزأ من برنامج الأبحاث في معهد قطر لبحوث الطب الحيوي.

ما هي ضمانات السلامة التي يتمتع بها المرضى في التجربة؟

تخضع كل تجربة سريرية لمراجعة شاملة وصارمة على يد خبراء مستقلين لضمان سلامة المشاركين قبل الدراسة وأثناءِها. ويُبلَّغ الخبراء بأي آثار جانبية ويحق لهم أن يقرروا إيقاف التجربة في حال تسجيل عدد كبير جدًا من الآثار الجانبية الشديدة. وعلاوة على ذلك، يحق لكل مشارك دائمًا ترك التجربة في أي وقت دون أن يؤثر ذلك على خدمات الرعاية والعلاج الاعتيادية التي يتلقاها.

تركز الكثير من الأبحاث التطبيقية التي يجريها المعهد على خدمات الطب الدقيق لسكان دولة قطر والمنطقة. ما هي التحديات التي تعترض تجربة الأدوية أو وسائل العلاج على فئات معينة من السكان؟

تُجرى غالبية الدراسات واسعة النطاق على أفراد من أصل قوقازي مع حدوث زيادة في عدد المرضى السود والأمريكيين من أصل أفريقي الذين يشاركون في التجارب السريرية مؤخرًا. وعلى الجانب الآخر، هناك نقص كبير في تمثيل المرضى العرب. ويتميز السرطان، مثله مثل العديد من الأمراض الأخرى، بأنه مرض متعدد العوامل في الأصل حيث يؤدي العامل الوراثي دورًا مهمًا في الإصابة بالمرض وتطوره بالإضافة إلى الاستجابة المحتملة للعلاج. لذلك، فإن الدواء الذي يحقق نتائج جيدة مع مرضى السرطان من أصل قوقازي لن يفيد بالضرورة المرضى من أصل عربي. وتتمتع الجهود المبذولة لوضع خريطة التركيب الجيني للمرضى العرب، بما في ذلك العمل الذي يؤديه برنامج قطر جينوم وقطر بيوبنك، بأهمية قصوى لتعزيز الطب الدقيق في هذه المنطقة.

ويلتزم معهد قطر لبحوث الطب الحيوي بتطوير خدمات الطب الدقيق في قطر ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد أطلق المعهد العديد من المبادرات لتعزيز معرفتنا بالجينوم العربي وعلاقته بمخاطر الإصابة بالأمراض وتطورها والاستجابة للعلاج. ومع تقدم هذه المشاريع، ستكون دولة قطر في وضع أفضل سيساعدها على تحسين خدمات الرعاية الصحية المقدَّمة لسكان البلاد والمنطقة.

كيف يبدو مستقبل أبحاث السرطان؟

نحن نعيش في فترة مثيرة للغاية تتطور فيها الأبحاث بسرعة، كما تتميز هذه الأبحاث بالقدرة على التأثير حقًا في خدمات الرعاية الصحية وتحسينها. وتُعدُ المرحلة الثانية من دراسة دوستارليماب مجرد مثال على كيف يمكن أن تؤدي عقود من العمل في النهاية إلى تحقيق فوائد حقيقية للمرضى.

*الدكتورة جولي ديكوك هي عالِمة في مركز البحوث التطبيقية للسرطان والمناعة بمعهد قطر لبحوث الطب الحيوي، كما تشغل منصب أستاذ مساعد في كلية العلوم الصحية والحيوية بجامعة حمد بن خليفة. ومنذ انضمامها إلى المعهد، أنشأت الدكتورة ديكوك برنامجًا بحثيًا في مجالات اكتشاف مستضدات الأورام والمناعة، وهما مجالان بحثيان رئيسيان يمكن أن يساعدا في تسريع وتيرة تقدم أبحاث سرطان الثدي وتعزيز الجهود الرامية لتطوير علاجات جديدة.