كان مرض السكري يُعتبر في السابق حالةً مقتصرةً على بعض مناطق العالم التي غلب نمطُ الحياة الرتيب فيها على النشاط البدني، ولكنه أصبح الآن تحديًا صحيًا عالميًا حقيقيًا، فوفقًا لتقرير صادر عن الاتحاد الدولي للسكري عام 2021، يُقدر عدد البالغين المصابين بمرض السكري حول العالم نحو 537 مليون، ومن المرجّح أن يرتفع إلى 783 مليون بحلول عام 2045 إن لم يتم اتخاذ التدابير الوقائية اللازمة، وتحتل قطر مكانًا ضمن الدول العشر الأولى في العالم من حيث انتشار السكري، حيث يعاني ما يقرب من 20% من السكان من هذا المرض.
ويمكن أن يتسبب عدم التحكم بمرض السكري في العديد من المضاعفات على مستوى الأوعية الدموية، سواء الدقيقة أو الكبيرة، مثل فشل القلب وفقدان البصر وأمراض الكلى واعتلال الأعصاب وتقرح/بتر القدم والوفاة، وعلى الرغم من أن مسببات مرض السكري لا تزال غير مفهومة تمامًا، فإن الأدلة المتزايدة تشير إلى وجود علاقة متداخلة بين العوامل البيئية والجينية التي تزيد من احتمالية الإصابة بالسكري، وفي ضوء ذلك، فإن الارتفاع الملحوظ في حالات الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني على مدى العقود الماضية يستدعي استكشاف العوامل البيئية المساهِمة في ذلك، فصحيحٌ أن الجينات تؤدي دورًا حاسمًا في القابلية للإصابة، إلا أن الانتشار المتصاعد لهذا النوع من السكري في المجموعات السكانية ذات التوارث الجيني المستقر يدفعنا إلى النظر في العوامل البيئية المحيطة المتمثلة في أنماط الحياة المتبعة، حيث أصبحت العادات الثابتة، إلى جانب استهلاك الأطعمة الغنية بالسعرات الحرارية، من السمات المميِّزة للحياة المعاصرة، وأنماط الحياة هذه تُسهم بشكل كبير في تطوّر وتفاقم مرض السكري من النوع الثاني.
علاقة متشابكة
أحد العوامل البيئية المتسببة في الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني بشكل أساسي هو وفرة الأطعمة ذات السعرات الحرارية العالية وسهولة الوصول إليها، إلى جانب انخفاض النشاط البدني، فقد شهدت المجتمعات الحديثة ميولًا نحو استهلاك الأطعمة المصنّعة التي تحتوي على نسب عالية من السكريات المكررة والدهون غير الصحية، وقد أدّى هذا التحول في النظام الغذائي، جنبًا إلى جنب مع تراجع مستويات النشاط البدني، إلى خلق بيئة محفّزة للسمنة، وهي عامل خطر رئيسي للإصابة بمرض السكري من النوع الثاني، حيث ترتبط ارتباطًا وثيقًا مع مقاومة الأنسولين و اختلال التمثيل الغذائي للجلوكوز، وببساطة، يمكن القول إن زيادة الوزن أو السمنة تزيد بشكل كبير من خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني.
وعلى الرغم من أنّ للعوامل البيئية حضورًا بارزًا في هذا السياق، إلا أنه لا يمكن إغفال العنصر الجيني في مرض السكري من النوع الثاني، حيث تشير دراسات السلالات العائلية ودراسات الوراثة إلى وجود نسبة أعلى من الاستعداد الجيني للإصابة بهذا المرض في بعض المجموعات السكانية، ويظهر ذلك في بعض المتغيرات الجينية، خاصة تلك التي تؤثر على استقلاب الأنسولين، وقد كشفت دراسات الترابط الجينومي الكامل(GWAS) عن وجود العديد من المواقع التي تشكّل أساس الميل الجيني للإصابة بالسكري من النوع الثاني.
لهذه العلاقة المتشابكة بين الجينات والبيئة مساهمة كبيرة في تطور مرض السكري من النوع الثاني، وقد لا يُظهر الأفراد ذوو الاستعداد الجيني أية أعراض ما لم يتعرضوا لمحفزات بيئية معينة، أما على الجانب الآخر، فيمكن أن يُصاب الأفراد الذين ليس لديهم استعداد جيني قوي بمرض السكري من النوع الثاني إذا تعرضوا لظروف محفّزة لذلك، وهذا التفاعل الديناميكي يؤكد على أهمية فهم كلٍ من العوامل الجينية والبيئية لتحسين آليات علاج المرض واحتوائه.
خيارات واعدة للعلاج
إن فهم طبيعة العلاقة المتداخلة بين الجينات والبيئة المحيطة التي تُسهم في زيادة فرص الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني له دور كبير في تحديد استراتيجيات الوقاية وأساليب العلاج، ويأتي تعديل نمط الحياة، بما في ذلك تقييد السعرات الحرارية المتناوَلة وزيادة النشاط البدني، كأحد إجراءات التدخل الأولى، والتي تهدف إلى معالجة العوامل البيئية المساهِمة في الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني، مع التأكيد على أهمية اعتماد عادات صحية للحد من المخاطر وتسهيل سُبل مجابهة المرض.
ومع تعمق فهمنا لهذه العوامل البيئية، يمكن تطوير استراتيجيات تدخُل دقيقة لمعالجة الأسباب الجذرية لهذا المرض، مثل تعديل نمط الحياة وبالتالي تغيير الظروف البيئية التي تزيد من احتمالية الإصابة، ويسمح تسخير هذه المعرفة باستراتيجيات تدخّل موجّهة وذات فعالية أكبر، خاصة بالنسبة للأفراد من ذوي الاستعداد الجيني للإصابة، مما يُتيح فرصةً واعدةً للطب الشخصي لتحسين نتائج العلاج في المعركة ضد مرض السكري من النوع الثاني.
وإنّ ظهور ما بات يُعرف بـ "الأدوية العجيبة" مؤخرًا على يد العديد من شركات الأدوية يمنح بعض الأمل لمرضى السكري، ففي الماضي كان للميتفورمين وغيره من المركبات الجزيئية الصغيرة دورٌ كبيرٌ في تخفيف أعراض المرض، أما الآن، فإنّ العديد من الأدوية الجديدة القائمة على الببتيد، والتي تُحاكي هرمونًا يساعد في التحكم بمستويات السكر في الدم، قد تكون مفيدة أيضًا للوقاية من أمراض القلب والكلى.
بشكلٍ عام يُمكن القول إنّ ارتفاع معدل انتشار مرض السكري من النوع الثاني يعود بشكل رئيسي إلى العوامل البيئية، حيث تؤدي أنماط الحياة المعاصرة دورًا محوريًا في الإصابة بالمرض، وعلى الرغم من أنّ العوامل الجينية تزيد من قابلية الإصابة، إلا أن التأثير الساحق للحياة الحديثة هو الذي زاد من انتشار المرض، لذا تعتبر معالجة هذه العوامل البيئية، من خلال إجراء تعديلات موجّهة على نمط الحياة، بمثابة العمود الفقري في عملية الوقاية من مرض السكري من النوع الثاني وإدارته، مما يشقّ طريقًا للحد من المَد المتزايد لهذا الاضطراب الأيضي المزمن، كذلك تأتي الأدوية الجديدة لتُقدّم أملًا في تحسين جودة حياة الأفراد المصابين.
المؤلفون: الدكتور عبد الله دياني (باحث ما بعد الدكتوراه في معهد قطر لبحوث الطب الحيوي) والدكتور رزق عبد المؤمن (باحث مشارك في معهد قطر لبحوث الطب الحيوي) و أسماء العلوش (باحث مساعد في معهد قطر لبحوث الطب الحيوي).
مراجعة النسخة العربية: رويدة زياد طه (باحث مشارك، معهد قطر لبحوث الطب الحيوي).
المحرر: الدكتور برسانا كولاتكار (عالم أول في معهد قطر لبحوث الطب الحيوي).