يناقش هذا المقال استخدام الذكاء الاصطناعي لمجابهة بعض أهم الاضطرابات العالمية المتنامية حاليًا، والتي يصعب تشخيصها نتيجة غياب معايير التشخيص الموحدة؛ لذا، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي سيسرع عملية التشخيص ويحسن دقة النتائج عن طريق تحليل عدد كبير من البيانات والمعطيات، للكشف عن المؤشرات الحيوية المرتبطة بهذه الاضطرابات.
تمثل الاضطرابات العصبية النمائية (NDDs) بما في ذلك اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة (ADHD) واضطراب طيف التوحد (ASD)، تحديًا عالميًا معقدًا ومتناميًا. وغالبًا ما تتزامن هذه الاضطرابات مع ظروف الصحة العقلية والنفسية خلال مرحلة الطفولة، لذا تتزايد الصعوبات التي يواجهها المصابون بهذه الاضطرابات وأسرهم والمجتمع ككل. أما في قطر، فقد أفادت دراسة حديثة تتمحور حول انتشار اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط بمعدل 808 إلى 1550 لكل 100,000 شخص، وترتفع هذه النسبة بين الذكور. ولا يوجد أي اختبار جسدي أو بيولوجي موحد لاضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط أو اضطراب طيف التوحد، وبالتالي فقد يستغرق تشخيص بعض الأفراد المصابين، مثل البالغين المصابين باضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط قرابة الـسبع سنوات.
تحديات طرق التشخيص الحالية والحاجة الماسة لإيجاد حلول مبتكرة
تتسم طرق التشخيص الحالية لاضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة واضطراب طيف التوحد بعيبين. فكلا التشخيصين يعتمدان بشكل كبير على ما تدرب عليه الطبيب وعلى ما اكتسبه من خبرات، لذا فإن هذه العملية تفتقر للمقاييس والمعايير الموضوعية، وينتج عنها نتائج متناقضة وفقًا لغياب المعايير الموحدة. وقد أشارت دراسة حديثة إلى الانخفاض الكبير في موثوقية التقييم بين الأطباء الذين يُشخصون اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه. ولا تظهر العديد من الفحوصات أي من المؤشرات البيولوجية التي يمكن الاعتماد عليها، مما قد يتسبب في تشخيص خاطئ للمريض، لاسيما في المراهقين الذين غالبًا ما تكون إفاداتهم عن ذاتهم غير موثوقة أو غير دقيقة.
تستغرق عمليات التشخيص التقليدية وقتًا طويلًا مما يؤدي إلى التأخير في تقديم العلاج ويعرض صحة المريض للخطر؛ ولكن، بمقدور الذكاء الاصطناعي معالجة هذه المشكلة عبر تحليل مجموعات هائلة من البيانات بسرعة ودقة، وتقديم تشخيصات أولية أسرع عن شكل وتصنيف الحالات الحرجة، وعلاوة على ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي يعزز الموضوعية عبر دمج مصادر بيانات متنوعة، ويكشف عن الأنماط و المؤشرات الحيوية التي تحسن من معدل الدقة.
يلتزم الباحثون بمركز بحوث الاضطرابات العصبية التابع لمعهد قطر لبحوث الطب الحيوي بجامعة حمد بن خليفة بتطوير خاصية تحديد العلامات الحيوية التي تساهم في تشخيص اضطرابات فرط الحركة ونقص الانتباه. ويمثل دمج الذكاء الاصطناعي في الطرق التشخيصية ابتكارًا هامًا يتوقع أن يحدث تغييرًا كبيرًا في عملية تشخيص اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه وطيف التوحد، وجعل التشخيص أسرع وأكثر دقة، علاوة على مساهمته في وضع الخطط العلاجية الفردية. وتقدم هذه الرؤية نظرة عامة عن التطورات في تقدم استخدام الذكاء الاصطناعي لدعم تشخيص اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه وطيف التوحد، وتسليط الضوء على التقنيات الجديدة المستمدة من الدراسات المبنية على دراسة أوميكس" Omics "، (مجال يهتم بدراسة علم الجينوم والبروتيوم)، للكشف عن المؤشرات الحيوية المرتبطة بهذه الاضطرابات.
تقنيات الذكاء الاصطناعي في التقييم السلوكي
طرح الذكاء الاصطناعي أدوات متطورة مثل التعلم الآلي (ML) ومعالجة اللغة الطبيعية (NLP)، وتتمتع بإمكانات كبيرة في تعزيز عملية تشخيص اضطرابات النمو العصبي. ويمكن تدريب خوارزميات التعلم الآلي على تحليل مجموعات بيانات كبيرة من الملاحظات السلوكية، لتحديد الأنماط الدالة على اضطرابات النمو العصبي المختلفة، مثل: اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه أو اضطراب طيف التوحد. وكما بمقدور هذه الخوارزميات تحليل وتفسير مدخلات مختلفة، بما في ذلك مقاطع الفيديو، للكشف عن السلوكيات والمؤشرات غير النمطية المرتبطة بالاضطرابات مختلفة.
أجرى آرا وآخرون دراسة حديثة عام (2024) بهدف تقييم خوارزميات التعلم الآلي للتشخيص المبكر لاضطراب طيف التوحد. واستخدموا فيها بيانات من فيديو وتمكنت الآلية من تحقيق دقة بنسبة 92٪ في الكشف عن السلوكيات المرتبطة بالتوحد، مثل: تجنب الاتصال البصري والحركات المتكررة. وبالمثل، قام وال وآخرون عام (2018) بدراسة أظهرت أن التعلم الآلي يمكنه تحديد سلوكيات اضطراب طيف التوحد من مقاطع الفيديو المنزلية بدقة تزيد عن 94%. ويذكر أن هذه الطريقة لا تعمل على تسريع عملية التشخيص فحسب، بل تساهم أيضًا في تحسين إمكانية الوصول للمرضى، وخاصة بالنسبة للسكان الذين يعانون من نقص في الخدمات. كما و يساهم التعلم الآلي في التنبؤ بتشخيص اضطرابات مختلفة من خلال اكتشاف الأنماط أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي.
يمكن استخدام البرمجة اللغوية العصبية لتحليل أنماط الكلام والاستخدامات اللغوية لدى الأفراد المصابين باضطرابات النمو العصبي. وقد أظهرت الأبحاث أن الأطفال المصابين باضطراب طيف التوحد غالبًا ما يُظهرون أنماط كلام مميزة، مثل تأخر في تطور اللغة، وهو سلوك يُعرف باسم الصدى (تكرار الأطفال الكلمات أو العبارات التي يسمعونها)، والإيقاع غير الطبيعي (إيقاع أو نبرة غير عادية في الكلام). ويساعد التحليل الكمي لنصوص الأفراد المشخصين، والتي غالبًا ما تكون متحيزة أو غير متسقة، على تحسين التشخيص المبكر. وتعمل أدوات البرمجة اللغوية العصبية على تحليل أنماط الكلام والاستخدامات اللغوية لتحديد عيوب التواصل التي عادة ما تُرى في الأشخاص من ذوي اضطراب طيف التوحد. ومن خلال تحديد وتحليل هذه السمات، يمكن أن تساعد البرمجة اللغوية العصبية في التشخيص.
وقد استخدمت دراسة أجراها ثيميستوكليوس وآخرون في عام (2024) البرمجة اللغوية العصبية لتحليل كلام الأطفال المصابين باضطراب طيف التوحد وحققت دقة بنسبة 96٪ في التمييز بينهم وبين أقرانهم من غير المصابين باضطراب طيف التوحد. وعلى نحو مماثل، تم استخدام البرمجة اللغوية العصبية لتعزيز تشخيص اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه من خلال التحليل اللغوي. ولقد طبقت تقنيات القياس الأسلوبي لتحديد "البصمات اللغوية" التي تميز الأفراد المصابين باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه عن أولئك الذين لا يعانون من هذا الاضطراب. لذا فإن الميزة الأساسية للذكاء الاصطناعي في تقييم السلوك تكمن في قدرته على معالجة وتحليل كميات كبيرة من البيانات بكفاءة، مما يساهم في تسهيل الكشف المبكر عن السلوكيات غير النمطية والحد من التحيزات الشخصية المتأصلة في التقييمات البشرية.
دمج دراسات (Omic) مع الذكاء الاصطناعي
أدى التقدم الأخير في تقنيات (Omic)، مثل علم الجينوم، وعلم النسخ، وعلم البروتينات، وعلم الأيض، إلى تعميق فهمنا للعلامات البيولوجية المرتبطة باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه واضطراب طيف التوحد. وقد أثبت الذكاء الاصطناعي، وخاصة التعلم الآلي والعميق، قيمته في تحليل بيانات (Omic) المتعددة للكشف عن أنماط بيولوجية معقدة (الصورة رقم 1).
وقد حددت دراسات الترابط الجينومي الكامل (GWAS) العديد من المتغيرات الجينية المرتبطة باضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة واضطراب طيف التوحد. فعلى سبيل المثال، تشارك جينات مثل DAT1 وDRD4 وSLC6A3 في نقل الدوبامين، وهو أمر مرتبط باضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة، في حين تشارك جينات مثل CHD8 وNRXN1 في الوظيفة الشبكية لاضطراب طيف التوحد. ومن الممكن أن يساهم الذكاء الاصطناعي في معالجة مجموعات هائلة من البيانات الجينية لتحديد عوامل الخطر الجينية وطريقة تفاعلها مع المؤثرات البيئية.
توفر دراسات النسخ الجيني تصورات حول أنماط التعبير الجيني، وتلقي الضوء على الآليات الجزيئية الكامنة وراء اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة واضطراب طيف التوحد. وحدد ناهاس وآخرون (2022) أكثر من 3000 جين ذو تعبير تفاضلي (DEGs) لدى الأفراد المصابين باضطراب طيف التوحد، لذا، فقد سُلط الضوء على هذه الجينات كمؤشرات حيوية. وتعمل التحليلات القائمة على الذكاء الاصطناعي للبيانات المنسوخة على تحسين هذه النتائج وصقلها، للكشف عن الشبكات الجزيئية المعنية بالاضطرابات العصبية النمائية.
وقد حدد التحليل التلوي الذي أجراه ناهاس وآخرون، 342 جين تعادل قيمتهم الاحتمالية المعدلة ≤ 0.001، الأمر الذي يزيد من تحسين رحلة البحث عن المؤشرات الحيوية المحتملة. كما واستخدمت هذه الدراسة تقنيات التعدين النصي لتحديد الجينات التي لها روابط سابقة مع الجينات العصبية النمائية، ومثال على ذلك جين MAPK8IP3 وSSH1. وسلطت هذه النتائج الضوء على إمكانية استخدام البيانات المنسوخة للكشف عن الشبكات الجزيئية المعقدة المتسببة في اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه واضطراب طيف التوحد.
تقدم البروتيوميات وعلم الأيض رؤى متكاملة في المسارات الكيميائية الحيوية المرتبطة باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه واضطراب طيف التوحد. وقد حددت الدراسات البروتومية التغيرات في البروتينات الشبكية وأنظمة الناقلات العصبية، بينما سلطت الدراسات الأيضية الضوء على التوقيعات الأيضية المرتبطة بخلل تنظيم الناقلات العصبية والإجهاد التأكسدي. ويمكن للذكاء الاصطناعي دمج هذه المجموعات من البيانات وتحديد المؤشرات الحيوية الجديدة للتشخيص المبكر وخطط العلاج الفردية.
إن دور الذكاء الاصطناعي في تحليل بيانات متعددة الجينات هو دور تغييري، إذ ساهم في تمكين الباحثين من الكشف عن الرابطة الخفية السابقة بين البيانات الجينية والمنسوخة البروتومية. فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة أجراها زانغ وآخرون (2023) طريقة التعلم الآلي في دمج البيانات الجينية والعصبية والتصوير العصبي لتحسين دقة تشخيص اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة. إن قدرة الذكاء الاصطناعي على معالجة البيانات المعقدة في الوقت الفعلي تسهل عملية تحديد المؤشرات الحيوية التي يمكن أن تعزز التشخيص المبكر، ومراقبة تقدم المرض، وتقييم فعالية العلاج.
إن دمج الذكاء الاصطناعي مع دراسات (Omic) الحديثة أمر كفيل بإحداث ثورة في الطريقة التي نشخص ونعالج بها بعض اضطرابات النمو العصبي كنقص الانتباه وفرط الحركة واضطراب طيف التوحد. كما يمهد الذكاء الاصطناعي الطريق لعلاجات أكثر دقة ومخصصة، فضلًا عن تقديم العلاج في الوقت المناسب عن طريق تقليل استخدام الأساليب التقليدية غير الموضوعية وتعزيز التشخيص المبكر باستخدام أدوات ترتكز على البيانات.
*المؤلفان: رويدة طه (باحث مشارك أول بمعهد قطر لبحوث الطب الحيوي)، والدكتورة سلام اصفار (باحث ما بعد الدكتوراه بمعهد قطر لبحوث الطب الحيوي).
*تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن المؤلفين، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عنهما ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.