على الرغم من أن التقنيات الناشئة تقدّم على الدوام فرصًا للتصدي للتحديات العالمية وتحسين رفاهية المجتمعات، إلا أن لديها القدرة أيضًا على توسيع الفجوات القائمة بالفعل بين الفئات التي تتمتع بالرفاهية وتلك المهمشة والمحرومة. وكجزء من الجهود الرامية إلى رأب هذا الصدع، يأتي مفهوم العدالة لتحقيق التوازن في النتائج بما يضمن التوزيع العادل للموارد والفرص، مع التركيز على تقديم المساعدة للمجتمعات المهمشة على مدار التاريخ. ولتحقيق هذه الغاية، تنطوي الشمولية على تنمية الشعور بالانتماء والتقدير وتقديم المساعدة طوال دورة حياة الابتكار التكنولوجي، على أن تكون هذه القيم متأصلة في الإجراءات والنتائج المصاحبة للتقدم التكنولوجي، ومع ذلك، فإن إعطاء الأولوية للعدالة والشمولية، والذي يمكن أن يتخذ أشكالًا عديدة في السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية، يمكن أن يعرقل التقدم في مجالات مثل الطب الدقيق، والحوسبة الكمية، وتقنيات إزالة الكربون.
في الندوة التاسعة للرواد العرب والأمريكيين، وهي منتدىً مخصص لمناقشة مستقبل العلوم والتكنولوجيا، انخرط المشاركون في مناقشاتٍ مفتوحةٍ عن الحاجة الماسة إلى تضمين مبادئ العدالة والشمولية في التقدم التكنولوجي، حيث ناقش علماءُ ومتخصصون من العالم العربي والولايات المتحدة الوسائلَ التي يمكن من خلالها دمج هذه المبادئ الجوهرية في جميع مراحل عملية الابتكار التكنولوجي، ابتداءً من الفكرة وانتهاءً بالتطبيق. وضمّت المناقشات أيضًا الممارسات الشاملة والحساسة للثقافة في مجالات البحث والتطوير وتنفيذ التقنيات، مع الأخذ بعين الاعتبار التقاطعات المعقدة بين الهويات الإقليمية والثقافية، وتوصّل المشاركون إلى أهمية أن يكون الهدف الرئيسي هو ضمان أن تكون نتائج هذه الابتكارات مفيدة ومتاحة بسهولة لشرائح واسعة من الأفراد.
وفي سياق مفهوم الإتاحة، هناك حاجة ملحة لضمان توفر التكنولوجيا على نطاق واسع، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تطوير مناهج مبتكرة تسعى إلى تفكيك العقبات السائدة، وهناك أيضًا خطابٌ عالميٌ متنامٍ يدعو حثيثًا إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على التكنولوجيا، ليس فقط بهدف تقليص التفاوت في الوصول الرقمي، بل والقضاء عليه تمامًا، وكان ظهور الشبكة العنكبوتية العالمية، على سبيل المثال، بمثابة بدايةٍ لمخزونٍ لا مثيل له من المعلومات يفوق مجموع المكتبات المنتشرة في العالم.
ويؤدي توفير سُبل الإتاحة الموسعة دورًا حاسمًا في معالجة الإقصاء الاجتماعي من خلال توفير مجموعة أوسع من الخيارات لفئاتٍ أكبر من المستخدمين، بما في ذلك الأفراد الذين يعتمدون على تقنيات المساعدة وغيرها من الوسائل البديلة لتيسير الوصول؛ فقبل ظهور الإنترنت، كان وصول الأفراد ذوي الإعاقة البصرية إلى الموارد محدود، إذ كانوا يعتمدون بشكل أساسي على كتابة البريل والأشرطة وبعض التقنيات الرقمية الأساسية، ولكن مع ابتكار قارئ الشاشة وتقنيات المزج الصوتي وشاشات البريل، تنامت بشكل كبير فرصهم للوصول والمشاركة، مما حقق تقدمًا ساحقًا على صعيد هذه الفئة، ومع ذلك، يثير هذا التقدم التكنولوجي السريع بعض المخاوف بشأن الإقصاء المحتمل لمجموعةٍ كبيرةٍ من الناس.
وفي مجال تصميم التكنولوجيا، من المهم إعطاء الأولوية للعدالة، وتجنب الإقصاء، والسعي لتحقيق إمكانية الوصول إلى التكنولوجيا للجميع، فمثلًا يؤكد العلماء على أهمية التعرف على أسلاف المرضى في مجالات الهندسة الطبية الحيوية ونمذجة الأمراض، لا سيما فيما يتعلق بالطب الدقيق والنتائج التي تركز على المريض، فهذه المجالات، التي تلعب دورًا حيويًا في دراسة صحة الإنسان ومرضه بشكل فعّال، غالبًا ما تستخدم خلايا لا يتوفر وصف دقيق لها أو تأتي من نطاق محدود من الأسلاف، ومن أجل تسهيل إنشاء الأدوات التي يمكن أن تخدم سكان العالم بشكلٍ فعال، يتعيّن تنويع نسب الخلايا بشكل مدروس.
ومما لا شك فيه أن التكامل بين تقنيات التعلم الآلي ومجموعات البيانات واسعة النطاق، المعروفة بـالبيانات الضخمة، يظل له تأثير كبير وثوري في البيئات المعاصرة، فقد أحدث هذا التكامل تحولًا جذريًا في مختلف الهياكل التجارية والاجتماعية من خلال مجموعات بيانات واسعة ومعقدة، ولهذه البيانات الضخمة إمكانات كبيرة لتعزيز العدالة والشمولية، لأنها تزود الشركات برؤىً متعمقة تمكنها من تحديد ومعالجة أوجه انعدام العدالة الممنهجة، وتقييم فعالية الجهود المبذولة لتحقيق الشمولية، وضمان تبنّي وجهات نظر متنوعة في عمليات اتخاذ القرارات.
تؤدي البيانات الضخمة أيضًا دورًا فاصلًا في تحليل وتحديد التحيّزات الخفية داخل الخوارزميات التي تشكل أساس أنظمة الذكاء الاصطناعي، وهذا بدوره يساهم في تطوير أطُر تكنولوجية أكثر عدالةً وإنصافًا، وإنّ تطبيق أطُر الشمولية على البيانات الضخمة يتطلب حوكمة دقيقة لمنع إدامة أو مفاقمة التمييز وضمان توزيع فوائد التقدم بشكلٍ عادل بين جميع فئات المجتمع، وبناءً على ذلك، فإن استخدام البيانات الضخمة يعزز من فرص العدالة والشمولية، بشرط أن يتبع هذا الاستخدام نهجًا دقيقًا يتخذ من مبادئ التنوع والعدالة والشمولية قاعدةً ثابتةً له.
وفي هذا الإطار، فقد ساهمت ندوة الرواد العرب والأمريكيين في إبراز الدور الهام للعدالة والشمولية كمكونات أساسية ضمن المجالات التقنية الحديثة، وأكدت على أهميتها من خلال أبعاد متعددة، بدءًا من تغير المناخ ووصولًا إلى الطب الدقيق والهندسة الطبية، حيث تؤدي هذه الأفكار دورًا حاسمًا في كل مرحلة من مراحل تصميم التكنولوجيا، ولأن غياب المساواة يؤدي إلى تفاقم نقاط الضعف التي تتداخل مع العديد من التحديات في مجالات الصحة والاقتصاد والتعليم والمجتمع، حيث تأتي ندوة الرواد العرب والأمريكيين، والمناقشات التي تخللتها، بمثابة مثالٍ عمليٍ على الدور الحيوي الذي يتولاه العلماء في الدعوة إلى تطبيق العدالة. ولمواجهة التحديات الماثلة، يتطلب الأمر جهودًا عالمية متضافرة ومستمرة للمطالبة بمشاركة فعّالة من قبل صناع القرار والقادة والعلماء والمواطنين.
وختامًا، فإن تنفيذ تدابير فعّالة وذات تأثير قوي يعتبر القوة الدافعة التي ستكفُل في نهاية المطاف بناء مستقبلٍ يتسم بالشمولية، مع التزامٍ ثابتٍ بضمان عدم إقصاء أي فردٍ أو تركه خلف الرَّكب.
*الدكتورة دينا أحمد آل ثاني تعمل أستاذًا مشاركًا ومديرًا للبرامج متعددة التخصصات في كلية العلوم والهندسة بجامعة حمد بن خليفة.
جميع الأفكار والآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن كاتبها ولا تعكس بالضرورة موقف الجامعة الرسمي.