بقلم/ د. دلال عسولي
أثارت الحرب الدائرة على غزة موجاتٍ من المقاطعة للعلامات التجارية الغربية، مثل "ستاربكس" و"ماكدونالدز"، من قِبل النشطاء والمستهلكين العاديين، ضمن جهودٍ للضغط على هذه الشركات ودفعها لإعادة النظر في مصالحها التجارية مع إسرائيل، وبينما يكمُن الجدال في مدى التأثير المالي المباشر لهذه الحملات، إلا أنها بلا شك أفضت إلى تحدياتٍ كبيرة على صعيد العلاقات العامة للشركات المعنية وأبرزت العلاقة المعقدة بين القضايا العالمية وسلوك المستهلك وسياسات الشركات.
يزداد الإدراك يومًا بعد يوم للقوّة المؤثرة لنشاط المستهلك، والذي يؤدي دورًا ملحوظًا في التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وتتنوع دوافع المشاركة في المقاطعة التي درسها باستفاضة الكثير من الباحثين في مجال التسويق وسلوك المستهلك، وتؤكد النتائج التي توصلوا إليها على بروز الشعور بالنفوذ والتأثير كدافعيْن رئيسييْن للمشاركة في المقاطعة، وكذلك تؤدي العوامل الاجتماعية، مثل مدى مصداقية الرسالة والمشاركة الإجمالية المتوقعة وحجم التأثير المحتمل، دورًا أساسيًا في تحفيز المستهلكين على مقاطعة منتجاتٍ وعلاماتٍ تجارية معينة، وزيادةً على ذلك، تُعتبر المقاطعة شكلًا من أشكال التعبير، وتأتي العواطف، مثل الغضب، كمحرّك أساسي للمشاركة.
وتُظهر مجموعة واسعة من حملات المقاطعة الناجحة عبر التاريخ التأثير الكبير لدوافع المستهلكين وسلوكياتهم على قرارات الشركات، وبفضل شيوع وسائل التواصل الاجتماعي، وانتشار حملات المطالبة بالاستهلاك والاستثمار المسؤول، وغيرها من المبادرات، يمكن أن نرى بوضوح التطور الذي لحق بممارسات المقاطعة ومبادئها، ومن أبرز الأمثلة على ذلك حِراكات المستهلكين المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان والمستوطنات غير القانونية في فلسطين، فقبل الحرب الحالية على غزة، انبثقت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) كرد فعلٍ معاصر على الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل، لا سيما "عملية الرصاص المصبوب" عام 2008-2009، وانخرطت حركة المقاطعة في حملاتٍ دولية تشبه إلى حدٍ كبير حركة مناهضة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، كما نجح منظموها في حشد الدعم من قطاع الأعمال والمجتمع المدني في مختلف أنحاء العالم، مستمدّين إلهامهم من الحملات التي قام بها مناهضو الفصل العنصري من قبل، إلا أن حملات (BDS) تميّزت بتسخيرها لوسائل التواصل الاجتماعي لتخدم أهدافها بشكلٍ فعال.
وعلى الرغم من الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن التأثير العام لحركة المقاطعة (BDS) اختلف من بلدٍ إلى آخر، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، كان التأثير المالي محدودًا، حيث سجّلت شركة "ستاربكس" انخفاضًا بنسبة 4% في الربع المالي الثاني من عام 2024، وعلى الجانب الآخر، كشفت مجموعة الشايع الكويتية، الحاصلة على حقوق امتياز "ستاربكس" في الشرق الأوسط، عن تسريح 2000 موظف مؤخرًا (حوالي 4% من إجمالي الموظفين) بسبب حملات المقاطعة، وكذلك، بلغ نمو مبيعات "ماكدونالدز" نحو 0.7% في الربع الأخير من عام 2023، وهو أقل بكثير من النسبة المتوقعة البالغة 5.5%، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى حملات المقاطعة في دول مثل مصر والأردن والمملكة العربية السعودية.
وعلى مقربةٍ من غزة، نجحت حركة المقاطعة (BDS) في الضغط على شركة "جنرال ميلز" لإغلاق مصنع "بيلسبري" التابع لها في مستوطنة "عطروت" غير القانونية وبيع حصتها في شركة "بودان" الإسرائيلية القابضة، ومن بين جهود الضغط الناجحة الأخيرة، تأثير الحركة على شركات مثل "جي فور إس" و"كلوك" و"بوما" لتغيير أنشطتها التجارية واتفاقات الرعاية المتعلقة بإسرائيل، ومن أهم الشركات التي تستهدفها حركات المقاطعة أيضًا منصات السياحة الرقمية مثل "إير بي إن بي" التي اتُهمت بتقديم خدماتها في المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، وتُظهر هذه الحملات مجتمعةً بشكل واضح التأثير الكبير لحملات المقاطعة المستمرة التي تتلقى دعمًا جيدًا، وتُبرز هذه الحملات، في أوج تأثيرها، الدور المتعاظم الذي يمكن أن يؤديه المستهلكون والنشطاء في التأثير في عملية صنع القرار في الشركات، كما أنها تلقي الضوء على التعقيدات المرتبطة بالسلوك الأخلاقي للمستهلكين في سياق النزاعات ومدى تأثيره على التوجهات الاستراتيجية للشركات العالمية.
تشير دراسات الحالة المذكورة أعلاه إلى أن حملات المقاطعة التي يشارك فيها المستهلكون غالبًا ما تتسم بثلاث خصائص مشتركة: الدوافع الأخلاقية التي تشجع على الاستهلاك والاستثمار الأخلاقي، والحراك الجماعي القادر على التأثير في سياسات الشركات، والضغط المستمر الذي يمارسه المستهلكون الذي يؤثر على الرأي العام ويدفع الشركات إلى إجراء التغيير المنشود، ولذلك فإن الأمر متروك للشركات لفهم الدوافع المسبِّبة للتوجه الاستهلاكي الأخلاقي وتأثيره المحتمل على أدائها المالي.
وتُعد معايير البيئة والمجتمع والحوكمة (ESG) وسيلةً هامة لتقييم مدى أخْذ الشركات لما يُسمّى "خط الأساس الثلاثي"، ويشمل الربح والناس والكوكب، بعيْن الاعتبار، وعند تطبيقها بالشكل الصحيح، يمكن لـهذه المعايير أن تكون أداة قوية تؤثر على التوجه الاستراتيجي وسياسات المسؤولية الاجتماعية للشركات، ومع ازدياد الوعي بالمسؤولية المترتبة على معايير (ESG)، ومراعاة العديد من أصحاب الشأن لهذه المفاهيم عند تقييم المخاطر والممارسات التجارية، أصبحت عملية تحسين الأداء، فيما يتعلق بالبيئة والمجتمع والحوكمة، أمرًا بالغ الأهمية لسمعة الشركات، وكذلك يمكن أن يؤدي دمج معايير (ESG) في نماذج الأعمال إلى تعزيز الثقة بين المنتفعين وتحسين صورة الشركات، فضلًا عن إتاحة فرصٍ مستدامة للأعمال والاستثمار.
وبينما تستبعد استراتيجيات الاستثمار القائمة على الفحص الاستبعادي الصناعات المثيرة للجدل، مثل الأسلحة، فإن الاستثمار المستدام، الذي يأخذ في الاعتبار معايير (ESG) الأوسع نطاقًا، يجب أن يتجاوز مجرّد الفحص القِطاعي ليشمل النظر في الأنشطة الأخرى التي تدعم اقتصادات الأنظمة القمعية بشكل مباشر أو غير مباشر، وبالتالي، عند تقييم أداء الشركات على أساس معايير (ESG)، ينبغي توسيع نطاق التحليل ليتضمّن أنشطة الاستثمار والتمويل والتبرعات، كما ينبغي أن يشمل الفحص العوامل الأخلاقية، كانتهاكات حقوق الإنسان، ودعم المستوطنات غير القانونية، والتمييز ضد النساء والأطفال، وتقويض التنوع البيولوجي، والإجهاد المائي، وانعدام الأمن الغذائي، على سبيل المثال لا الحصر، ولذلك فإنّ إعادة النظر في أطر(ESG) لتضمين التوجهات الأخلاقية للشركات يمكن أن يزوّد المستهلكين بمُدخلات عمليّة لاتخاذ قراراتٍ أفضل.
يرتبط مفهوم المقاطعة ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الرقابة الذي يتجسد في الاستثمار والاستهلاك المسؤول، ومع تعاظم الحراك الداعي إلى تخفيف آثار تغير المناخ والعمل نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة الشاملة، تميل أعدادٌ كبيرة من المستثمرين ذوي النفوذ إلى الأخذ بعيْن الاعتبار الاستثمار والاستهلاك الاجتماعي المدروس، وفي حين أن التصورات حول شكل التأثير السلبي على المجتمع قد تختلف بين المستهلكين والمستثمرين، إلا أن اتجاهات السوق الأخيرة تُظهر زيادةً في تعرّض الشركات المثيرة للجدل أخلاقيًا للتحقيق والتدقيق، لذا فإنه من الضروري أن تبدأ الشركات بإعادة النظر في استراتيجيات إدارة المخاطر ومعايير البيئة والمجتمع والحوكمة (ESG) التي تتبناها لتشمل الأبعاد الأخلاقية الأخرى المتعلقة بالصراعات والأزمات الجيوسياسية.
** الدكتورة دلال عسولي تعمل أستاذًا مساعدًا في التمويل الإسلامي والمستدام في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة.
** تم تقديم هذا المقال من قبل إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابة عن مؤلفته، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عنها ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.