أثارت الحرب على غزة وما صاحبها من إبادة جماعية للشعب الفلسطيني شعورًا بالحزن والألم والعجز عن نصرتهم كما ينبغي، وهو ما دفع الدكتور هومان كيشافارزي لكتابة مقال عن هذه المشاعر التي تعتمل في النفس البشرية، يتناول فيه بالتحليل والشرح هذه المشاعر الفياضة وكيفية التعبير عنها بشكل صحي وسليم.
نادرًا ما شهد التاريخ الحديث أحداثًا أثرت في الأمة وخلقت شعورًا مشتركًا بالألم والحزن مثل الإبادة الجماعية التي تتعرض لها غزة والظلم المستمر بحق فلسطين والمسجد الأقصى، وهذا يؤكد صحة الحديث النبوي ويُظهر أن الأمة الإسلامية لا تزال تنبض بالحياة، كما قال الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-: "مَثل المؤمنين في توادّهم وتراحُمهم وتعاطفهم مثلُ الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى" (رواه البخاري ومسلم).
لقد ولّدت المعاناة المشتركة للأمة مزيجًا من مشاعر الغضب والعجز والإحساس بالذنب والألم والحزن العميق في مختلف أنحاء العالم، ففي استطلاع رأي أجراه مركز خليل، تبيّن أن 56.8% من المسلمين الأمريكيين يعانون من تغييراتٍ في شهيتهم، فيما أفاد 76% منهم بمواجهتهم لمشاكل في النوم بفعل الإبادة الجماعية. يذكرنا هذا بما حدث مع إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- عندما جلس ليتناول الطعام فغلبه البكاء وعاف الطعام عندما تذكر استشهاد مصعب بن عمير -رضي الله عنه- (تأليف محمد زكريا الكاندهلوي، 1989). ولا شك أن الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، الذي كان مثالًا للرحمة والتعاطف، كان سيتألم لحال الناس في غزة، وهو الذي وصفه الله تعالى في القرآن الكريم: "لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٌ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ" (سورة التوبة - الآية 128). لقد كان -صلى الله عليه وسلم- دائم القلق والاهتمام بأمر الأمة، ولا شك أن ما يحدث في غزة الآن، خصوصًا ما يقاسيه الأطفال، كان سيؤلم قلب نبينا الحبيب، صلى الله عليه وسلم.
المواساة الروحانية
هذه المشاعر لها ما يبررها تمامًا، إلا أنه من المهم أن نتأمل في التعزية القرآنية التي يقدمها الله تعالى للمؤمنين بقوله: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" (سورة البقرة - الآية 155 - 157).
عندما نعيد توجيه قلوبنا إلى الله، ندرك أنه طالما أن الله هو من يبتلينا، فلا بد أن وراء هذه المصائب الظاهرة حكمة وفائدة، كما يقول المثل العربي: "أفعال الحكيم لا تخلو من الحكمة"، وهكذا، فإن هذه الأحداث تشكل اختبارًا لكل من يعاني ومن يشهد معاناتهم. إنه اختبار للصبر والثبات واستخلاص المعاني الروحية في مثل هذه المواقف.
ومن الأمور التي أذهلت الكثيرين خلال هذه الإبادة الجماعية هو مفهوم الشهادة ومدى تجذره العميق في وجدان المسلمين. وعلى الرغم من أن هذا المفهوم يبدو مناقضًا للفطرة البشرية، ناهيك عن كونه مفهومًا مجردًا بالنسبة للكثيرين، إلا أنه تذهلنا قدرة المسلمين في فلسطين على أن يجدوا معنىً في خسائرهم، بل واستعدادهم للتضحية بحياتهم من أجل القضية على الرغم من التهديدات المحدقة بحياتهم. وهذا يساعدنا أيضًا في أن نفهم كيف كانت أمهات بعض الصحابة يسارعن ولا يترددن في تسجيل أبنائهن في المعارك لمحاربة الظلم، فقد فقدت الخنساء -رضي الله عنها- أربعةً من أبنائها في إحدى المعارك، وعندما بلغها خبر استشهادهم قالت: "الحمد لله". وهذا المفهوم للشهادة والمعنى الروحي المرتبط بها مستمد من قوله تعالى: "وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ" (سورة البقرة - الآية 154).
وقد فسر الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية بقوله: "إن أرواح الشهداء في جوف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك اطلاعةً، فقال ماذا تبغون؟ فقالوا يا ربنا وأي شيء نبغي، وقد أعطيتنا ما لم تُعط أحدًا من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا، قالوا نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا، فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى، لما يرون من ثواب الشهادة، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُركوا" (صحيح مسلم – الحديث رقم 1887).
دور الانفعالات والمشاعر
من المهم أن نفهم أن المشاعر أو الانفعالات تؤدي وظيفة ودورًا مهمًا. فكل عاطفة تعبر عن احتياجات تعتمل في نفوسنا، والتعبير السليم والملائم للمشاعر هو القدرة على تحديد وإشباع تلك الاحتياجات. ومن ناحية أخرى، فإن الانفعالات والمشاعر سواء كانت تفريط أو إفراط تعد تعبيرات لا تفي بما يعتمل في النفس. خذ على سبيل المثال مشاعر الغضب التي يشعر بها المسلمون في وقتنا الحاضر، فالحاجة إلى الغضب هو حماية للنفس أو رغبة في تحقيق العدالة (الغزالي، 2011)، حيث إنها تحفز الفرد من الناحية الفسيولوجية وتدفعه إلى الاستجابة الفعلية لمشاعره. وهذا مفيد عندما يؤدي إلى الاحتجاج، والمقاطعة، وكتابة المقالات، والنشاط السياسي، والدعاء، وما يتصل بذلك من أنشطة، أما إذا كان يؤدي إلى غضب مدمر بحيث يبدأ الفرد في إيذاء المارة الأبرياء، أو صب غضبه على أفراد أسرته، أو الانفعال العام، أو تدمير ممتلكات الآخرين، وغير ذلك، فهذا النوع من الغضب غير صحي وغير مفيد.
ولاشك أن الحزن له دوافع كامنة، فالحزن يدفع الفرد إلى التفكير في الماضي والآلام المرتبطة به (ابن الجوزي، 1986). وتتمثل مشاعر الحزن في إيجاد معنى أو استخلاص الدروس من الأحداث المؤلمة. وبالتالي، فإن استشهاد العديد من الفلسطينيين، ولا سيما الأطفال، يحفز مشاعر الحزن لدى المسلمين. ومع ذلك، فإن القدرة على استنباط معنى وهدف من هذه المعاناة والتعبير عن هذا الحزن بشكل إيجابي يتمثل في القدرة على استخلاص الدروس القيِّمة من هذه الأحداث، مثل قيمة نعمة الصحة والسلامة والحاجة إلى تعامل أكثر واقعية بالقضية الفلسطينية والمسجد الأقصى. ونتيجة لهذا الحزن فقد بدأ الكثير من المسلمين في التعرف على تاريخ فلسطين والدور المحوري للمسجد الأقصى وقدسيته، وأصبحوا حاليًا يتوقون لزيارة هذه الأرض المباركة، ولقد أصبحت فلسطين الآن جزءًا أكثر أهمية في قلوب ووجدان معظم المسلمين. وقد أدى هذا الحزن إلى تعلق أكبر وأكثر قيمة بفلسطين في قلوب المسلمين، وهذا هو الجانب الإيجابي الناتج عن مشاعر الحزن.
أما إذا كانت مشاعر الحزن تؤدي إلى الانطواء والبكاء المفرط والعزلة الاجتماعية وعدم التعلم أو المشاركة، فهذا تعبير غير صحي عن مشاعر الحزن. وفي الواقع كان رسولنا الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - كثير البكاء، فقد عُرف عنه أنه كان في حالة حزن شديد عندما توفي ابنه إبراهيم، ومع ذلك فقد وصف حزنه بأنه رحمة، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإِنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" (صحيح البخاري، الحديث رقم 1303). وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مثالًا حقيقيًا في التحكم بانفعالاته والصبر رغم شعوره بالحزن. وكان مع ذلك يتبسم في وجه أطفال الصحابة (رضوان الله عليهم)، ويخالطهم ويمازحهم (مسند الإمام أحمد: 8481).
الوسائل العملية
تتمثل بعض الوسائل العملية والدروس المستفادة في التعامل مع مشاعرنا بطريقة ملائمة وصحية فيما يتعلق بالحرب الحالية على غزة، بحيث نجعل فلسطين جزءًا ذا قيمة ومعنى في هويتنا وأهدافنا الإسلامية. وقد يكون ذلك في شكل أنشطة سياسية، أو تفعيل مقاطعة المنتجات، أو التعلم الشخصي، أو الكتابة والتحدث عن فلسطين، أو التبرع ماليًا أو تقديم خبراتنا لدعم إخواننا وأخواتنا. ومن المهم أيضًا أن نجعلها جزءًا أساسيًا في حياتنا الروحية، وذلك بأن نتذكر في صلواتنا أولئك الذين استشهدوا وجُرحوا وسُجنوا وشُردوا.
وختامًا، من الضروري للغاية أن نتفكر في النِعم الهائلة التي أنعم الله بها علينا، وألا نعتبرها من النِعم البديهية، فلا ينبغي أن يؤدي الشعور بالألم من فقدان الآخرين إلى التغاضي عن النِعم التي في أيدينا وإهمالها. فمن خلال التفكير في فقدان أبناء الآخرين، يمكن للمرء أن يعمق من تواصله وعلاقته مع أبنائه وعائلته. ويمكن أن يحدث ذلك أيضًا من خلال الانخراط كعائلة في القضية الفلسطينية، وذلك بالقراءة الجماعية والدراسة والأنشطة ذات العلاقة.
ورغم المعاناة الهائلة في فلسطين، إلا أنه من المهم الاستعانة بالمحفزات الدينية والروحية من خلال التمسك بالأمل وتوجيه انتباه المرء إلى الخالق سبحانه وتعالى، بالصلاة والتفكر والتأمل والتعلم، بل يمكن للمرء أن يحافظ على آمال كبيرة في قدوم أيام أكثر إشراقًا، حيث يقول الله تعالى: "لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ" (سورة الزمر – الآية 53)، و "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (سورة الشرح – الآية 5).
* الدكتور هومان كيشافارزي هو مدير برنامج ماجستير الآداب في علم النفس الاستشاري في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة.
* تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.