الثورة القادمة في الحوسبة الكمية | كلية العلوم والهندسة

تأليف/ الدكتور سيف الكواري

الهيئة:  كلية العلوم والهندسة
 الدكتور سيف الكواري

يشهد العالم كلَّ بضعةِ عقودٍ ثوراتٍ تكنولوجيةٍ تُحدث تغييراتِ جذريةٍ في حياتنا، وقد حدث هذا عندما اختُرعت أجهزة الحاسوب للمرة الأولى، وعندما وُجدَ الإنترنت، ومؤخراً عندما ظهر الذكاء الاصطناعي، والذي أظهر قدراتٍ تقترب من الذكاء البشري، واليوم، يتكهن معظم الخبراء بأن الثورة القادمة سترتكز على الأرجح على تقنيات تُسخر مبادئ ميكانيكا الكم، والحوسبة الكمية هي إحدى هذه التقنيات.

لأجهزة الحاسوب الكمية القدرة على تعطيل العديد من القطاعات أو تحويلها كليًا، بدءًا من مجالات الدفاع والمالية، ووصولًا إلى التعليم والخدمات اللوجستية والطب، ومع ذلك، فنحن حاليًا في عصرٍ كمي مشابه لعصر ما قبل السيليكون لأجهزة الحاسوب الكلاسيكية، حيث يتم تجريب منصات مختلفة لإنتاج ما يُسمى عادةً ب "الحاسوب الكمي ذي القدرة على تحمّل الخلل"، وتتبنى شركات التكنولوجيا العملاقة، بما في ذلك "جوجل" و"آي بي إم"، تقنية تسمى "الموصلية الفائقة" لبناء حواسيبها الكمية، قائلين إنه قد يكون بمقدورهم بناء حاسوب كمي كبير بحلول عام 2030، كما تقوم شركات أخرى، بما في ذلك شركات ناشئة، مختصة في الحوسبة الكمية، بتجربة منصات أخرى، وبعضهم يقول إنه قد يكون بمقدورهم بناء حاسوب كمي واحد قبل عام 2030.

وإلى أن يتم بناء ما يسمى بالحاسوب الكمي ذي القدرة على تحمل الخلل، يحتاج القطاع إلى المرور بمرحلةٍ يُشار إليها عادةً باسم عصر "الكم المتوسط ​​الحجم الصاخب" (NISQ)، حيث تكون الأجهزة الكمية صغيرة الحجم ومحدودة الموارد، وعلى الرغم من أن هذه الأجهزة ستكون بمثابة نماذج أولية لأجهزة الحاسوب الكمية ذي القدرة على تحمل الخلل لتعرض إمكاناتها، إلا أنه لا يُتوقع منها أن تُظهر المزايا الكمية العملية المنشودة بوضوح.

وترجع صعوبة بناء مثل هذه الأجهزة بشكل أساسي إلى الكم الكبير من الضوضاء الذي تعاني منه أجهزة (NISQ)، وهذا ليس مفاجئًا، فالوحدات الحوسبية الأساسية لأجهزة الحاسوب الكمية، أي البتات الكمية (كيوبتات)، هي جسيمات كمية عالية الحساسية تتأثر بسهولة بالبيئة المحيطة، ولذلك، فإن هناك نهجيْن لبناء حاسوب كمي، الأول يقوم على تبريد هذه الأجهزة حتى درجة حرارة تقترب من صفر كلفن، وهي درجة حرارة أبرد من الفضاء الخارجي، مما يقلل من التفاعل بين الكيوبتات والبيئة المحيطة، وبالتالي تنتج ضوضاء أقل، والثاني يتمثل في قبول أن مثل هذه المستويات من الضوضاء أمرٌ لا مفر منه، والتركيز على تخفيف أو كبح أو تصحيح أي أخطاء قد تنتج عن هذه الضوضاء، ويمثّل هذا مجالًا بحثيًا ثريًا ينبغي تطويره إذا أردنا تسهيل بناء أجهزة حاسوب كمية ذات قدرة على تحمل الخلل.

ومع تقدم عمليات بناء الأجهزة الكمية، تتسارع الأبحاث لاستكشاف التطبيقات المحتملة ليس فقط في مجال الحواسيب ذات القدرة على تحمل الخلل، بل وفي مجال أجهزة (NISQ) الحالية أيضًا، وقد أظهرت آخر التطورات نتائج واعدة بالفعل في التطبيقات المتخصصة مثل الأمثَلَة والذكاء الاصطناعي والمحاكاة.

ويُرجَّح أنّ أول حاسوب كمي عملي قد يظهر في مجال الأمثَلَة، حيث ثبت نظريًا أن الحواسيب الكمية ستكون قادرة على حل مشكلات الأمثَلَة بكفاءة أكبر من الحواسيب الكلاسيكية، وعمليًا قد يكون لذلك تأثيرٌ عميقٌ على مجموعة واسعة من المشكلات التي قد يستغرق حلها عددًا هائلًا من التجارب، والأمثلِة على مشاكل الأمثَلَة هذه تكاد تكون لا تحصى، ويمكن إيجادها في قطاعاتٍ رئيسية مثل التمويل (أمثَلَة المَحافظ، وتحليل مخاطر الائتمان، وغيرها)، والخدمات اللوجستية (أمثَلَة مسارات النقل، وتحسين سلسلة التوريد، وغيرها)، والطيران (أمثَلَة جداول الرحلات الجوية، وتحسين مسارات الرحلات، وغيرها).

وهناك مجالٌ واعدٌ آخر من المتوقع أن تحقق فيه أجهزة الحاسوب الكمية تقدمًا كبيرًا، ألا وهو مجال الذكاء الاصطناعي، فهناك اعتقادٌ متزايدٌ أنّ بأن أجهزة الحاسوب الكمية قد تقدم مزايا جديدة في التدريب وأمثَلَة نماذج التعلّم الآلي، وذلك من خلال تحقيق الاستفادة القصوى من الظواهر الكمية التي لا يوجد لها نظائر كلاسيكية، ومع ذلك، ما زلنا نفتقر للأدلة الملموسة على هذه المزايا، حيث تتطلب مثل هذه التجارب عادةً أجهزة كَمية أكبر، إلا أنّ مؤشراتٍ مبكرة لهذه المزايا المحتملة تظهر بشكلٍ متنامٍ داخل المجتمع البحثي.

وكانت محاكاة الأنظمة الكمية هي التطبيق الأصلي الذي حفز فكرة بناء أجهزة الحاسوب الكمية، ومن المرجح أن تؤثر عمليات المحاكاة الفعالة بشكل جذري على العديد من التطبيقات الأساسية، مثل علم المواد (البحث عن مواد جديدة ذات خصائص متفوقة، مثل بطارياتٍ أفضل)، واكتشاف الأدوية (تطوير أدوية جديدة عن طريق محاكاة التفاعلات الكمية بين الجزيئات بشكل أكثر دقة)، لكن، مع أجهزة (NISQ) الحالية، يمكن محاكاة الجزيئات البسيطة فقط، وستحتاج الجزيئات الأكثر تعقيدًا إلى الانتظار حتى ظهور أجهزة حاسوب أكبر ذات قدرة على تحمل الخلل.

وعلى الرغم من حالة عدم اليقين التي تحيط بالتطبيقات المستقبلية لأجهزة الحاسوب الكمية، يجب أن نتذكر أن التطبيق الذي كان يُعتبر "التطبيق القاتل" لأجهزة الحاسوب الكلاسيكية (التطبيق الذي ساهم وحده بالحصة الأكبر من انتشار أجهزة الحاسوب الكلاسيكية على نطاق واسع) لم يكن بذلك الوضوح واليقين حتى في خيال مخترعيه، ومما يبعث على الدهشة، أن هذا "التطبيق القاتل" كان تطبيق الجداول الحسابية، وبالنسبة لأجهزة الحاسوب الكمية، غالبًا ما تتمحور التكهنات حول المحاكاة والأمثَلَة باعتبارهما "تطبيقات قاتلة" محتملة لهذه التكنولوجيا، ولكن التطبيق الفائز في مسابقة التكهنات هذه لا يزال غامضًا، فقد يكون شيئًا غير معروفٍ لنا على الإطلاق في هذا الوقت، وقد يظهر من أماكن لم تُستكشف بعد.

*الدكتور سيف الكواري أستاذ مساعد في قسم تكنولوجيا المعلومات والحوسبة، ومدير مركز قطر للحوسبة الكمية في كلية العلوم والهندسة بجامعة حمد بن خليفة.

*تم إرسال هذا المقال من قبل إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابةً عن مؤلفه، وجميع الأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن مؤلفها ولا تعكس بالضرورة موقف الجامعة الرسمي.