بقلم/ الدكتور عبد الفتاح سعيد محمد

لا يتعلق الصيام خلال شهر رمضان بالامتناع عن الطعام أو الشراب بقدر ما يتعلق بقيام المرء بالتأمّل والتفكّر في حياته وعلاقاته بالآخرين والمجتمع والبشرية جمعاء، فبالإضافة إلى تشجيع ضبط الذات، يقدم شهر رمضان العديد من الفوائد الملموسة التي تعزز التعايش السلمي بين الأديان، فتناول الناس الطعام سويًا عند الغروب، بغض النظر عن معتقدات الطرف الآخر، يبني جسورًا بين الانتماءات الدينية المختلفة، ويُسهم في نهاية المطاف في القضاء على التعصب الأعمى والإسلاموفوبيا (رهاب الإسلام) على وجه التحديد، كما أن هذه الديناميكية المتمثلة في مشاركة الطعام ليس لها حدود دينية؛ إذ تؤسس لمناسباتٍ أكثر حيوية يتلاقى ويتآخى فيها الناس في جوٍ من الاحترام المتبادل.
وفي حقبةٍ تشهد تزايدًا في العوامل التي تُسهم في تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا حول العالم، يظلّ شهر رمضان المبارك بمثابة مصدرٍ للأمل وفرصةٍ سانحةٍ لتوحيد الإنسانية على قلبٍ واحد.
في أيامنا هذه، تشهد البشرية موجاتٍ من التعصب والإسلاموفوبيا في العديد من أنحاء العالم، حيث يتم بث السرديات المسيئة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والأحزاب السياسية الشعبوية، وعلى نحو متزايد عبر وسائل الإعلام الرئيسية، إلا أن شهر رمضان يمثل فرصة سانحةً لدحض هذه التصورات الضارة ونفيها، فمن خلال الصيام، يشعر المسلمون بالجوع والعطش، تمامًا كالأشخاص الأقل حظًا في العالم، وهذا يولّد التعاطف والتراحم والتفاهم بين المجتمعات، كما يشجع العمل الخيري المسلمين على العطاء، ويُسهم هذا في هدم الأحكام المسبقة وتعزيز التضامن بين الأديان، وإنّ تركيز الاهتمام في شهر رمضان على الروحانيات وصيام القلب والجوارح وضبط النفس يحفز المسلمين على إظهار أسمى جوانب عقيدتهم، التي تجسد الأخلاق الحقيقية التي يدعو إليها الإسلام، ومنها نشر السلام والتعاطف والتسامح، ومن خلال تسخير البرامج التعليمية المختلفة، ومبادرات الحوار بين الأديان، ومبادرات خدمة المجتمع خلال شهر رمضان وبعده، يُمكن للمجتمعات أن تتصدى للمفاهيم الخاطئة وتبني جسور التفاهم، خطوةً بخطوة، إلى أن يتم القضاء على مظاهر التعصب والإسلاموفوبيا كاملةً.
ويُمنحنا شهر رمضان روحانيات خاصة يمكن أن تسهم في دعم الجهود المبذولة لمكافحة الإسلاموفوبيا، حيث يؤدي النمو الروحي الذي يشهده المسلمون خلال رمضان دورًا هامًا في إشاعة قيَمٍ كالصبر والتعاطف والتسامح بين المسلمين، ويساعد هذا التغيير الداخلي في مواجهة الصور النمطية السلبية التي تهاجم المسلمين، وترسيخ التضامن والتفاهم، وبالإضافة إلى ذلك، يعلمنا رمضان كيف نتحكم في رغباتنا واندفاعاتنا، ويشجعنا على مساعدة الآخرين في مجتمعاتنا، حيث يشارك المسلمون في مختلف الأنشطة التواصلية، التي يدعمون بها الفئات المهمشة بغض النظر عن ديانتهم أو جنسيتهم أو ثقافتهم، وبهذا، يأتي شهر رمضان سدًا منيعًا أمام الإسلاموفوبيا، لينشر الرفق والتعاضد كقيم إنسانية أساسية بين جميع الناس.
كذلك تُذلّل روح الجماعة التي يتميز بها شهر رمضان، دونًا عن غيره من الشهور، سُبل التواصل والتعارف بين الأديان، فمن خلال موائد الإفطار وتجمّعات الصلاة، تتاح للمسلمين الفرصة لدعوة الجيران وزملاء العمل والأصدقاء من مختلف الأديان إلى منازلهم، وهكذا تُزال الحواجز وتُبنى العلاقات المترابطة التي تفتح المجال بدورها للحوار الذي يرسّخ التفاهم والاحترام المتبادل، ورمضان هو منصةٌ يؤكد فيها المسلمون إنسانيتهم في مواجهة المشاعر المعادية للإسلام، فلا يُقوّي رمضان عزيمة المجتمع المسلم وحسب، بل يمهّد الطريق لبناء أمةٍ بشريةٍ أساسها السلام والتآخي، ويتحقق ذلك من خلال الأعمال الخيرية والتطوعية المرتبطة برمضان على وجه الخصوص، والتي تُسهم في صياغة خطاب قوي يجابه الافتراءات والأكاذيب والسرديات المضللة بالتفاهم والتسامح واحترام الآخر.
وبالإضافة إلى الأهمية الروحانية لشهر رمضان، فإن هذا الشهر الفضيل يُعزز العديد من العادات والتقاليد التي تمنح التسامح والتفاهم بين الأديان، وإحدى هذه التقاليد الراسخة التي يتضمنها شهر رمضان هي وجبة الإفطار، والتي عادة ما تتضمن دعوة الجيران والأصدقاء وزملاء العمل من مختلف الخلفيات الدينية للمشاركة في تناولها، والتي يمتد أثرها إلى ما هو أبعد من المجتمع المسلم، مما يعزز روابط الصداقة بينهم. وفضلًا عن ذلك، فإن شهر رمضان يؤكد على دور الصدقة والتعاطف ومشاركة الظروف الصعبة للناس بغض النظر عن دينهم، فالمسلمون مدعوون إلى التبرع للمحتاجين، حتى أولئك الذين ينتمون إلى ديانات مختلفة، عبر قنوات مثل الزكاة والصدقة، ومن خلال تقديم المساعدات غير المُتحيزة للمجتمعات المحرومة بغض النظر عن معتقداتهم الدينية، فإن رمضان يُشجع على التراحم والتضامن الذي يؤكد في النهاية على القيم الإنسانية الرئيسية.
ومن الشعائر الأخرى التي يتميز بها شهر رمضان هي صلاة التراويح، أو قيام الليل، والتي تؤدى كل ليلة خلال شهر رمضان، وغالبًا ما تفتح المساجد أبوابها لغير المسلمين لحضور مثل هذه الصلوات حتى يتمكنوا من التعرف عن قُرب على الإسلام، وبالتالي، فإن هذا النهج الشامل لا ينطوي على تعزيز الحوار والتفاهم فحسب، بل يساعد أيضًا في القضاء على المفاهيم المسبقة وتلك الخاطئة عن الإسلام، وعلاوة على ذلك، فإن شهر رمضان يُمثل أرضية للحوار والتفاهم بين أصحاب المعتقدات الدينية المختلفة، فخلال شهر رمضان، يقرأ الناس القرآن الكريم، ويتدبرون آياته، حيث يوفر عدد كبير من المساجد والمراكز الإسلامية جلسات مجانية لدراسة وتدبر القرآن الكريم، حيث يُمكن للأشخاص من جميع الخلفيات التسجيل فيها، والتي تكون بمثابة بوابة لاكتشاف القيم المشتركة والتباين بين وجهات النظر المختلفة على مستوى العالم.
باختصار، تُعد تجمعات الإفطار ومبادرات الحوار بين الأديان مثالًا على الجهود الحثيثة التي تُبذل من أجل تطبيق قِيم التسامح والانفتاح والاحترام تجاه أفراد المجتمع المنتمين إلى ديانات مختلفة، فالعطف والصلوات والتجارب المشتركة تخدم شهر رمضان كأداة لتعزيز الوحدة وإشاعة السلام بين مختلف الجماعات، متجاوزةً بذلك أي روايات مثيرة للخلافات حول الإسلاموفوبيا، وفي ذلك يقول الله تعالى في القرآن الكريم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". (سورة البقرة، الآية 183).
الدكتور عبد الفتاح سعيد محمد، أستاذ مشارك في الإسلام والشؤون العالمية، في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة.
* تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.