العدالة في توزيع اللقاحات: حقوق الملكية الفكرية على المحك

بقلم عائشة النعمة، محاضر بكلية القانون في جامعة حمد بن خليفة

الهيئة:  كلية القانون
العدالة في توزيع اللقاحات: حقوق الملكية الفكرية على المحك

إن النقاش حول حقوق الملكية الفكرية وخاصة براءات الاختراع والوصول إلى الأدوية ليس بالأمر الجديد، حيث تعتبر حقوق الملكية الفكرية دافعًا للابتكار لكونها تحمي نتائج البحوث وعمليات التطوير التي تستند إلى الاستثمارات الضخمة، ولكن يمكن القول أيضًا إنها تعرقل الوصول إلى الأدوية بشكل مُنصف وبأسعار معقولة. 

ولكن في حالات الطوارئ العالمية في مجال الصحة العامة مثل جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19)، عندما تواجه الدول نقصًا حادًا في اللقاحات الضرورية لإنقاذ حياة البشر، هل ينبغي حينئذ إعطاء الأولوية للصحة العامة على حساب المكاسب الاقتصادية وقواعد التجارة الدولية المصممة لحماية حقوق الملكية الفكرية؟ 

تؤسس الاتفاقية الخاصة بحقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة، والتي تعتبر جميع الدول الـ 164 الأعضاء في منظمة التجارة العالمية طرفًا فيها، الحد الأدنى من المعايير اللازمة لحماية مختلف أشكال حقوق الملكية الفكرية.

وقد لجأت الهند وجنوب أفريقيا، وكلاهما يمتلكان بنية تحتية قوية لتصنيع الأدوية بشكل متكامل، في أكتوبر 2020، إلى قواعد منظمة التجارة العالمية للحث على التنازل المؤقت عن حقوق الملكية الفكرية (براءات الاختراع، وحقوق النشر، والأسرار التجارية، والتصاميم الصناعية) بشأن المعدات والأدوية واللقاحات المتعلقة بـ "الوقاية من فيروس كوفيد-19 أو احتواءه أو علاجه"، ويعني هذا التنازل أن البلدان يمكنهما إنتاج معدات ولقاحات محلية دون إذن مُسبق من أصحاب الملكية الفكرية، ومن شأن هذه الخطوة المساعدة في تقويض الطابع الاحتكاري لحقوق الملكية الفكرية، التي تمنح حقوقًا حصرية لحامل هذه الحقوق وتمكنه من فرض قيود على التراخيص الإجرائية. 

 وقد رفضت كلٌ من البرازيل واليابان والاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية في البداية مقترح التنازل، إلا أن هذا الموقف تغير مع ظهور طفرات جديدة من فيروس كوفيد-19، وما ترتب عليها من ارتفاع نسب الوفيات، ومواجهة العديد من الدول لأزمات صحية عامة بسبب نقص إمدادات اللقاح. من هنا، بدأ موقف العديد من الدول في التحول لصالح مقترح الهند وجنوب أفريقيا بعد أن حصل على دعم 62 عضوًا في منظمة التجارة العالمية، وإعلان الولايات المتحدة دعمها للتنازل المؤقت لتأمين "وصول أفضل، وقدرة تصنيع أكبر، ولقاحات أكثر". وقد أعربت العديد من الهيئات الدولية ومنظمة الصحة العالمية ولجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عن دعمها كذلك لهذه الخطوات.

ولكن تتباين ردود أفعال بعض الدول حول حقوق الملكية الفكرية التي سيُتنازل عنها أو الآليات التي ينبغي من خلالها إتاحة حقوق الملكية الفكرية. فقد اقترح الاتحاد الأوروبي استخدام بعض أوجه المرونة في جوانب حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة (تريبس) مثل التراخيص الإجبارية، بينما يدعو آخرون إلى التراخيص الطوعية. ويعقد مجلس تريبس اجتماعات لإعداد مقترح معدل إلى المجلس العام وهو (أعلى هيئة لصنع القرار في منظمة التجارة العالمية في جنيف) بحلول نهاية يوليو 2021.  

وتوضح الأزمة التي تشهدها الهند الطابع الملح للحالة الصحية الطارئة، خاصة أن الهند تنتج و تورد لقاح Covishield المرخص من قبل أسترازينكا، وكوفاكسين والذي بصدد إدراجه على قائمة الاستخدام الطارئ لمنظمة الصحة العالمية. ونظرًا للأزمة الصحية الكارثية، فقد أوقفت الهند تصدير اللقاحات وتسببت في تعطيل الإمداد باللقاحات على مستوى العالم، حتى لبرنامج الوصول العالمي للقاحات (COVAX). وفي هذه الأثناء، تواجه أفقر دول العالم نقصًا كبيرًا في الإمداد باللقاحات الكافية.  

ويقر القانون الدولي ببعض المرونة في حالات الطوارئ الصحية العامة، ومن الأمثلة على ذلك إعلان الدوحة بشأن جوانبحقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة والصحة العامة في عام 2001، الذي يؤكد – مع الحفاظ على الالتزامات – على ضرورة أن يكون اتفاق تريبس جزءًا من الإجراءات الوطنية والدولية الأوسع لمعالجة مشاكل الصحة العامة. وتماشيًا مع هذه الغاية، فإن مجمل القانون الدولي لحقوق الإنسان، بما في ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تحمي الحق في الحصة على أعلى مستوى ممكن من الرعاية الصحية. 

ولأننا نسابق الزمن، فقد لا يسمح الإطار الحالي لحقوق الملكية الفكرية بالاستجابة السريعة المطلوبة. إن المتطلبات الصارمة لاعتماد اللقاح واعتباره آمنًا بموجب تصاريح الاستخدام الطارئ، والتأخير الإجرائي هي من تدفعنا لتسليط الضوء على الحاجة إلى الإعفاء من حقوق الملكية الفكرية بشأن اللقاحات المعتمدة بالفعل. إن الاستفادة من اللقاحات المعتمدة من قائمة الاستخدام الطارئ والتي أثبتت فعاليتها حتى الآن وتخفيف قيود حقوق الملكية الفكرية ستساعد في توفير اللقاحات والوصول إليها في الوقت المناسب.  

وقد لا يحل الإعفاء من اتفاق تريبس مشكلة النقص في الإمداد باللقاحات على مستوى العالم، بل يرى البعض بأن هذا النقص ليس عيبًا متأصلاً في نظام الملكية الفكرية، خاصة لو نظرنا بعين الاعتبار في الاضطرابات الأخرى في سلاسل التوريد التي لا تزال قائمة، مثل تلك التي تعطل سلاسل توريد الشرائح الدقيقة، والممصات المخبرية الطبية، وحتى الأثاث. ومع ذلك، وبالنظر إلى أن ترخيص براءات الاختراع يمنح الشركة حقًا حصريًا في تسويق اللقاحات، فإن الشركات الأخرى ذات القدرات التصنيعية الكبيرة لا تستطيع الإسهام في رفع سقف إنتاج اللقاح وتلبية الطلب الموجود. 

كما أن التنازل المؤقت لا يعني أن شركات الأدوية لا تستطيع تحقيق عائد من عملها، وينبغي على الدول أن تعمل مع شركات الأدوية في وضع خطط للتعويض والتأمين لضمان المقابل المناسب.  

إن هدفنا في كلية القانون بجامعة حمد بن خليفة هو مواجهة التحديات القانونية الحالية من منظور يستشرف المستقبل. نحن نرى جائحة كوفيد–19 كدراسة حالة لكيفية الاستجابة للتهديدات الخطيرة والوجودية. وبينما تقوم ظاهرة الاحتباس الحراري بتغيير توازن منظومتنا البيئية، فإن هذه التهديدات سوف تتوالى بطريقة يصعب التنبؤ بها. وعندما تظهر حالات طوارئ صحية لا يمكن التنبؤ بها، يصبح الإبداع الإنساني هو طوق النجاة للتغلب عليها. وحتى النظام العالمي للملكية الفكرية باعتباره نظامًا قانونيًا ينظم الأفكار هو ما يزال تحت الاختبار، وينبغي أن يكون مرنًا بما يكفي للاستجابة في الوقت المناسب، على منوال العلماء الذين هبوا لنجدة البشرية وعملوا بلا كلل لتطوير اللقاحات التي ستعيد لنا قريبًا ما يشبه الوضع الطبيعي السابق الذي اعتادناه.