تخلف لبنان عن سداد ديونها العامة: التجربة اليونانية تظهر أن السبب مهم بقدر أهمية العلاج | جامعة حمد بن خليفة

الدكتور إلياس بانتيكاس

الهيئة:  كلية القانون
تخلف لبنان عن سداد ديونها العامة: التجربة اليونانية تظهر أن السبب مهم بقدر أهمية العلاج

تختلف طبيعة وأسباب الديون السيادية من بلد لآخر. ومع ذلك، فإن الروايات الشائعة أو المختلقة المتعلقة بالديون عادة ما تخفي أصلها أو السبب الحقيقي لحدوثها.

وفي حالة لبنان، الذي يواجه حاليًا أزمة مالية واقتصادية يصنفها البنك الدولي بأنها ربما تكون من بين أشد ثلاث أزمات عالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر، فإن من بين الدروس الرئيسية التي يمكن أن نستقيها من التجربة اليونانية أهمية فهم أسباب حدوث هذه الأزمة. ويجب أن يسبق فهم حقيقة كيفية وسبب وصول لبنان إلى أزمة الديون الحالية، بما في ذلك التوقف عن سداد سندات دولية مقوَّمة باليورو بقيمة تعادل 1.2 مليار دولار خلال شهر مارس 2020، أي خطوة للتعافي وإعادة الهيكلة في ظل الشروط الراهنة لسداد الديون.

نظرة على التجربة اليونانية

في الوقت الذي شهد تفاقم أزمة الديون السيادية في اليونان، كانت الرواية الشائعة وقتها هي أن الحكومات اليونانية المتعاقبة كانت قد ضخمت من حجم مؤسسات القطاع العام وتجاوزت مواردها المالية. ويعزز هذا الأمر من الخرافة الشائعة التي تزعم أن الناس في جنوب أوروبا كسالى، ويحرصون على نوم القيلولة لفترات طويلة، ويطمحون للعمل في الوظائف الحكومية، وأن حكوماتهم فاسدة. ومع ذلك، دحضت لجنة برلمانية مستقلة تشكلت في عام 2015 هذه الرواية.

وأظهرت النتائج واسعة النطاق التي توصلت إليها اللجنة بوضوح أن القطاع العام اليوناني كان الأقل إنفاقًا من بين 27 قطاعًا عامًا في الاتحاد الأوروبي آنذاك (بصرف النظر عن النفقات المتعلقة بالدفاع). وفي الواقع، حتى بداية الأزمة المالية العالمية في عام 2008، كانت نسبة ديون اليونان قياسًا بإجمالي الناتج المحلي واحدة من أدنى المعدلات في أوروبا وكانت مستدامة بالتأكيد. فلماذا تجاوزت هذه النسبة سقفها خلال العام التالي؟ حدث ذلك لأن البنوك اليونانية تراكمت عليها ديونٌ خاصة (في شكل قروض) وصلت قيمتها إلى حوالي 100 مليار يورو.

وفي ذلك الوقت، كانت البنوك الفرنسية والألمانية قد استحوذت على البنوك اليونانية بشكلٍ عامٍ، وبالتالي كان الدين الخاص للبنوك اليونانية (الذي لا يمكن تحمله الآن) يوشك أن يتحول إلى مشكلة فرنسية ألمانية. وبدلاً من حدوث ذلك، "اقتنع" رئيس الوزراء اليوناني آنذاك بتأميم البنوك اليونانية وبالتالي تحويل دينٍ خاصٍ بحتٍ إلى دين عام. وعبر قيامه بذلك، أصبح دافع الضرائب اليوناني وقتها مثقلاً بالديون وإجراءات التقشف التي ترتبت على تلك الخطوة، بينما أعيدت هيكلة البنوك اليونانية، حيث أعيد تمويلها فعليًا، وأُعفيت فرنسا وألمانيا من هذه المهمة.

ونتيجةً لهذا التأميم الهائل، وهو أمر غير منطقي على الصعيدين المالي والسياسي، قفزت نسبة الدين قياسًا بإجمالي الناتج المحلي في اليونان قفزةً كبيرةً، وانخفضت الجدارة الائتمانية إلى أعماقٍ سحيقةٍ. وبات لدى اليونان الآن دين مكتشف حديثًا بقيمة 100 مليار يورو، ولم يعد بإمكانها دخول الأسواق المالية، وزادت احتمالات ارتفاع أسعار الفائدة على الاقتراض. ومع ذلك، دُفنت هذه الحقائق تحت الروايات الشائعة وفقدت اللجنة مصداقيتها حتى داخل اليونان نفسها.

الدين العام في لبنان

بلغ الدين العام في لبنان، في وقت التخلف عن سداد الديون خلال شهر مارس 2020، أكثر من 90 مليار دولار، أي ما يعادل حوالي 170٪ من ناتجه المحلي الإجمالي، مع وجود ديون بالعملات الأجنبية بنسبة تقترب من 37٪.

ولفهم أزمة ديون لبنان بشكل كامل، لا يكفي مجرد دراسة الإجراءات العلاجية التي اقترحها صندوق النقد الدولي. وتعتبر أصول الديون التي يتكبدها بلد ما أكثر أهمية بكثير لأنها تخبرنا كيف تراكم الدين وعلى يد من. ويجوز لأبناء الدولة التي تعرضت لدَّينٍ غير شرعي سواءً بشكلٍ كليٍ أو جزئيٍ اختيار التخلي عن هذا الدين، أو محاسبة الأشخاص والمؤسسات على ذلك.

لذا، تحتاج لبنان إلى لجنة مستقلة للتحقيق في الأسباب الحقيقية لديونها، وهذا التزام على الدولة. وبما أن تشكيل هذه اللجنة لن يكون وشيكًا، لا يسعني إلا التكهن بأصول الدين العام اللبناني.

ووفقًا لبيانات صادرة عن لجنة إلغاء الديون، طُرِح سببان رئيسيان لحدوث أزمة الديون في لبنان. السبب الأول هو أن البنوك التجارية اللبنانية يُسمح لها بالمضاربة (في العملات الصعبة المحولة من المغتربين في الخارج) على صكوك الدين السيادية المقومة بالليرة اللبنانية بأسعار فائدة أعلى بكثير من تلك التي يمنحها مصرف لبنان المركزي. وتقيد هذه المعدلات المرتفعة على السندات الحكومية والودائع المصرفية الاستثمارات الرأسمالية في الاقتصاد المنتج بشدة. وليس من المستغرب أن يستورد لبنان 80٪ من غذائه. والسبب الثاني هو الفساد المستشري في المؤسسات المالية الحالية. وقد أفادت التقارير الصادرة عن اللجنة المذكورة أنه خلال الفترة من 2005 إلى 2014، استحوذ أغنى 1٪ من سكان لبنان على 23٪ من الدخل وعلى نسبة 40٪ من إجمالي الأصول الشخصية، بينما كان على أفقر 50٪ من السكان أن يتقاسموا نصف الدخل الذي يحصل عليه أغنى 1٪ من السكان. وأكدت اللجنة كذلك على أن القرارات السياسية الرئيسية يجب أن تتعلق بالهيكل الأوسع للصلاحيات في الدولة.

ولا بد من الإشارة أيضًا إلى أن عبء إعادة هيكلة الديون رجعي للغاية، ويؤذي المودعين الصغار، والجزء الأكبر من القوى العاملة، والشركات الصغيرة.

وإذا نظر أي شخص فقط إلى تخلف لبنان عن سداد ديونها وعملية إعادة هيكلة هذه الديون، فإن المرء يخطئ الصورة الحقيقية واستحقاق الشعب اللبناني، وهو جزء لا يتجزأ من تقرير المصير المالي، حيث أن للناس الحق في التحرر من جميع أنواع الديون غير المشروعة وغير الشرعية والبغيضة، حتى لو تراكمت تحت راية الدولة.

ولا ينبغي أن تبدأ أي عملية إعادة هيكلة قبل معرفة الحقيقة بشأن كيفية تراكم هذه الديون. ولن يرهن أي شخص راجح العقل منزله لمجرد أن أحد البنوك أخبر المالك أنه تكبد دينًا لم يكن على درايةٍ به. ذلك أن المالك يستفسر أولاً عن مصدر هذا الدين، وإذا وجد أنه قد تراكم عن طريق الخطأ أو بشكلٍ ظالم، فإنه يرفض سداده. وهذا أقل ما يمكن للشعب اللبناني المطالبة به.

يشغل الدكتور إلياس بانتيكاس منصب أستاذ االقانون والتحكيم الدولي بكلية القانون في جامعة حمد بن خليفة.

ملاحظة:
هذا المقال مقدَّم من إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابةً عن الكاتب. والآراء الواردة في هذا المقال تعكس وجهة نظر الكاتب، ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.