
يناقش هذا المقال آخر المستجدات في البرامج والتقنيات لتدريب التطبيقات الذكية على محاكاة أسلوب أشهر الكتّاب في العالم. كما تطرق الكاتب إلى التداعيات القانونية والأخلاقية في حال ما تكللت هذه التجارب بالنجاح.
وفقًا للدكتور جورج ميكروس، الأستاذ في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حمد بن خليفة، فإن أفضل إجابة لهذا السؤال هي: لا، ليس بعد. ويرجع ذلك لأن التطبيقات التكنولوجية المستخدمة لا تزال عاجزة عن إدراك البعد الإنساني والروحاني اللذين ترتكز عليهما أشهر إبداعات الكتاب والأدباء، لذا، سيتعين تخطي العديد من العقبات في سبيل تحقيق هذه الغاية.
يتفرد أرنست همنغواي بمكانته الأدبية ونثره البليغ وفصاحته المتناهية، وتنافسه على هذه المكانة الكاتبة ماري شيلي، التي ابتكرت شخصية (فرانكشتاين) من وحي خيالها الخصب. ولقد ساهم التقدم المُذهل في تطوير النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs) في حث الأكاديميين والقرّاء والمؤلفين على التساؤل عما إذا كان الذكاء الاصطناعي التوليدي (GAI) قادرًا على محاكاة الأساليب الفريدة لأبرز المؤلفين. وردًا على السؤال، فقد قام باحثون بجامعة حمد بن خليفة بمحاكاة الأساليب المميزة لبعض المؤلفين المشهورين، وأظهرت التجربة مواطن قوة ومهارات الذكاء الاصطناعي حاليًا.
مواطن القوة والضعف
ولإجراء هذه التجربة، تم استخدام تقنية GPT-4o لمحاكاة أسلوب همنغواي وشيلي المميز في سرد مشترك لمفاهيم مثل العزلة، والطموح، والصراع الأبدي بين البشر والطبيعة. واستخدمت فيها استراتيجيات مثل المطالبة الصفرية (تكليف الذكاء الاصطناعي بإكمال مهمة لم يتم تدريبه عليها مسبقًا)، وتقمّص الأدوار، ومحاكاة الأساليب، والتعلّم الآلي من المحتوى. وبفضلها توصل الباحثون إلى أنه بوسع الذكاء الاصطناعي التوليدي محاكاة المفردات وبناء الجمل القصيرة، فضلاً عن قدرته على التعرف على جوهر النص وكينونته. وتضمنت التجربة تأليف نصوص محدودة ومتداخلة مقتبسة من رواية "الشيخ والبحر" للكاتب همنغواي، ورواية "فرانكنشتاين" للكاتبة شيلي، إذ كان الهدف من ذلك هو توفير بيئة متكافئة تسمح بإبراز الاختلافات الأسلوبية رغم تباين الموضوعات.
ولقد أنتجت تقنية GPT-4o قصصًا قصيرة وروايات مقتبسة من أبرز الأعمال الأدبية، وخضعت مؤلفاته لتحليل أسلوبي دقيق وشامل، وقُورنت بالأعمال الأصلية. وكانت النتائج ملفتة من عدة نواحٍ؛ فقد برع الذكاء الاصطناعي التوليدي في استخدام نمط همنغواي لكتابة الجمل القصيرة والحوارات البسيطة، كما تمكن من محاكاة الوصف البليغ والدلالات الجزلة لشيلي. وقد منحت هذه الميزات القصص المقتبسة هالة من الأصالة، وجعلتها على مقربة نسبيًا من النصوص الأصليّة بالنسبة للقراء.
وقد ثُبت نهج التعلّم من المحتوى، حيث قام النموذج المبرمج على تحليل مقتطفات عمل مؤلفٍ ما، قبل البدء بإعداد عمل جديد. وهو أسلوب مبشر بشكل خاص، حيث أظهرت قدرة الذكاء الاصطناعي التوليدي على تكييف أسلوبه وفقًا لما تم تغذيته به من أمثلة ومعلومات.
وعلى الرغم من نقاط القوة المذكورة أعلاه، لا يزال GPT-4o يكافح لمحاكاة جوهر أساليب همنغواي وشيلي الأدبية. وقد أظهرت التحليلات الأسلوبية - أدوات برمجية تهدف لإبراز الأنماط اللغوية - أن محاكاة الذكاء الاصطناعي التوليدي غالبًا ما تفتقر إلى الإيقاع السردي من قواف، والتفاصيل العاطفية المميزة للمؤلفين. فعلى سبيل المثال، بينما يشتهر نثر همنغواي ببساطته، إلا أن إيقاعه وطريقة سرده معقدة بشكل فذ. أما شيلي فتتميز بكتاباتها التأملية الفلسفية النمقة، لذا فقد استعصى هذا الدمج على قدرات تقنية GPT-4o.
كما أبرزت تقنيات التجميع الهرمي والتصوري مثل t-SNE - تقنية لتقليل الأبعاد- الفروق الشاسعة بين الأعمال المقتبسة والأصلية، فرغم تحسن مستوى التوافق في نظام التعلُم التطبيقي في المحتوى، وتبني الذكاء الاصطناعي التوليدي في أعماله المقتبسة، إلا أنه اتخذ نهجًا وسطيًا جمع بين أسلوب همنغواي وشيلي، لذا بات من السهل ملاحظة أن هذه النصوص من تأليف آلة.
ما الذي يعيق تقدم الذكاء الاصطناعي التوليدي؟
تكمن الإجابة في إدراك طابع الإبداع البشري. فالمحاكاة الأسلوبية الحقيقية أكثر من مجرد انتقاء الكلمات المنمقة أو تقليد تركيب الجمل القصيرة، فهي تتطلب فهم دقيق للسياق والمغزى والعلاقة بين الصيغة والمعنى المراد إيصاله. وعلى الرغم من أن تقنية GPT-4o قادرة على تحليل ومحاكاة الأساليب النمطية، إلا أنها تفتقر إلى الخبرة الحياتية والفهم البديهي للتفاصيل التي تميّز الإبداع البشري.
وعلاوة على ذلك، فإن اعتماد تقنية GPT-4o على المعطيات المدربة هو في حد ذاته عائقًا يصعب تخطيه، ففهمه لهمنغواي وشيلي يستند إلى مجموعة من النصوص التي قد تكون غير متباينة. وعلى عكس الباحث البشري، فإن الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى الخبرة الحياتية والإدراك البديهي للتفاصيل التي تميز التأليف البشري.
وفضلًا عن التحديات التقنية، فإن قدرة الذكاء الاصطناعي على محاكاة الأساليب الأدبية تثير تساؤلات ومخاوف أخلاقية هامة. فماذا سيحدث إذا ما تمكنت الآلات من تأليف نصوص يصعب تمييزها عن نصوص المؤلفين؟ ناهيك عن قضايا الملكية الفكرية والإبداعية. هل يمكن أن نشهد عصرًا تجتاح فيه أعمال همنغواي أو شيلي "المقلدة" السوق، هل ستفرض هذه الأعمال تغييرًا على مبادئنا ومفاهيمنا الحالية عن التأليف والإبداع؟
وهناك احتمال إساءة الاستخدام. فالنصوص الإقناعية المصاغة بأسلوب الشخصيات العامة يمكن أن تُستخدم كسلاح فتاك في حملات التضليل أو التسويق المضلل. ومع تقدم مهارة الذكاء الاصطناعي التوليدي في المحاكاة الأسلوبية، ينبغي أن تتطور الإجراءات الوقائية لمنع سوء استخدامها.
رؤى مستقبلية
على الرغم من قصورها الحالي، إلا أن تجارب تقنية GPT-4o للمحاكاة الأسلوبية لا تزال مستمرة وتبعث الأمل لرسم مستقبل واعد في مجال محاكاة الكتابات الإبداعية. لنتصور معًا ابتكار أداة تساعد الكُتّاب على صقل مهاراتهم، وتقدم لهم اقتراحات وعبارات منمقة ورنانة، وتساعدهم في اختيار حبكة مترابطة الأحداث، إضافة إلى تقديمها اقتراحات أسلوبية تشابه أساليب كتّابهم المفضلين. وأما في مجال التعليم، فيرجح أن توفر هذه النماذج رؤى حول التقنيات الأدبية، لتبسيط الأعمال الكلاسيكية وجعلها في مستوى الطلاب.
ولتحقيق هذه الإمكانيات بشكل رشيد ومدروس، يتعين على الباحثين والمطورين سد الثغرات التقنية والأخلاقية. وسيكون من الضروري تطوير الخوارزميات وبيانات التدريب وجعلها أكثر إثراءً، فضلًا عن اتخاذ تدابير شفافية رادعة. كما سيتعين إجراء مناقشات مع المؤلفين والمعلمين والعلماء وأخذ اقتراحاتهم بعين الاعتبار.
لذا، وإجابة على سؤال" هل يمكن لتقنية GPT-4o الكتابة مثل هيمنجواي أو شيلي؟"، فبينما تحاكي هذه التقنية أسلوب الكاتب بشكل مثير للإعجاب، إلا أنها لا تستطيع استيعاب عمق الطابع الإنساني الذي يميز الأدب الكلاسيكي؛ ولكن مع تطور التكنولوجيا، فإنه يتوقع أن تتطور قدرات البرنامج لتصبح قادرة على فهم أساليبنا الإبداعية.
وبالنسبة للقُرّاء والكُتّاب، تتيح لهم هذه اللحظة فرصة للتفكير فيما يجعل الأدب مجالًا إنسانيًا بحتًا. هل يكمن السبب في الكلمات المختارة، أم يكمن السر في مغزاها؟ وفي عالم تتخطى فيه الآلات حدودنا الإبداعية بشكل متسارع، لم يسبق وأن أضحى هذا السؤال أكثر إلحاحًا أو أكثر إثارة.
*الدكتور جورج ميكروس، أستاذ في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حمد بن خليفة.
* تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفها، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.