بقلم/ د. جورج ميكروس
شهد مجال الوسائط الرقمية تحولًا جذريًا في السنوات الأخيرة، بفضل ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي المتقدمة، ويظهر هذا التحول جليًا في أحدث إصدارات شركة (OpenAI)، وهما (Sora) و(Voice Engine)، فهذه الأدوات قادرة على إنتاج محتوى صوتي ومرئي بجودة عالية تحاكي الإنتاج البشري إلى حدٍ كبير، لتُحدث بذلك قفزة نوعية في قدرتنا على إنشاء الوسائط واستخدامها، إذ يمكن لأداة (Voice Engine) إعادة توليد الأصوات البشرية بدقة مذهلة، مما يفتح آفاقًا غير مسبوقة من الفرص والتحديات الجديدة، لذلك هذا التطور في قدرات الذكاء الاصطناعي يُحتّم علينا دمج الثقافة الإعلامية في مناهجنا التعليمية.
إن الحاجة إلى الثقافة الإعلامية في التعليم ليست فكرةً جديدة، ولكن الضرورة الملحّة لدمجها في المناهج الدراسية وصلت مستوىً غير مسبوق، فمع تطور الساحة الرقمية، يصبح المحتوى الذي يغمر شاشاتنا أكثر تعقيدًا، وبالتالي، ينشأ شباب اليوم في عالمٍ تزداد فيه صعوبة التمييز بين ما هو حقيقي واصطناعي، ومن المرجح أن يكون المحتوى الذي يستهلكونه، سواء كان تعليميًا أو ترفيهيًا، متأثرًا أو منتَجًا بواسطة الذكاء الاصطناعي، لذلك يستلزم هذا التحوّل نهجًا جديدًا من التربية.
وتشمل الثقافة الإعلامية بشكلٍ أساسي المهارات اللازمة للوصول إلى الوسائط الإعلامية وتحليلها وتقييمها وصناعة المحتوى الإعلامي بأشكاله المختلفة، ومع ذلك، تتطلب الموجة الجديدة من أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي متعددة الوسائط توسيع نطاق هذه المهارات، لأن الأجيال القادمة تحتاج أن تكون قادرة على التمييز بين المحتوى الذي ينتجه الإنسان والمحتوى الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي أيًا كانت قنواته ووسائطه، كما ينبغي عليهم أن يدركوا أوجه التحيز المحتملة التي تتضمنها أنظمة الذكاء الاصطناعي، إلى جانب التداعيات الأخلاقية لتوظيف الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى الإعلامي، وهذه المهارات ليست فقط ضرورية لاتخاذ قرارات واعية بشأن المحتوى الذي يستهلكونه، بل هي أساسية أيضًا لضمان المشاركة المسؤولة في الفضاء الرقمي.
إن الآثار المترتبة على عدم تزويد شبابنا بهذه المهارات خطيرة جدًا، ففي ظل غياب الفهم السليم لطبيعة الإعلام الرقمي، سيصبح الشباب عرضة لخطر التضليل والتلاعب، فقدرة الذكاء الاصطناعي على إنتاج محتوى صوتي ومرئي مقنع، ولكنه مفبرك بالكامل، يمكن أن تؤدي إلى تفاقم ظواهر "التزييف العميق" وعمليات الاحتيال المعقدة وغيرها من أوجه التأثير الخفيّة التي يمكن أن تؤثر على الرأي العام أو المعتقدات الشخصية دون أي رقابة أو تمحيص، وإلى جانب ذلك، نحن نعلم الآن أن المحتوى اللغوي الذي تنتجه تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي محدود ويُظهر تنوعًا أقل في المفاهيم والأبعاد الدلالية مقارنةً بالمحتوى الذي ينتجه البشر، ومع استمرار تدريب تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي باستخدام المزيد من البيانات التي يتم إنشاؤها اصطناعيًا، علينا أن نتوقع أن تتضاءل جودة المحتوى الناتج وأن تتضخم التحيزات الموجودة بالفعل في بيانات التدريب لتصبح أكثر وضوحًا.
ومواجهة هذا التحدي تتطلب نهجًا شاملًا، لذلك لا بد أن يتلقى المعلمون دعمًا وتدريبًا متخصصيْن للتعامل مع هذا الواقع الجديد؛ فقد يشعر الكثير من المعلمين بأنهم غير مؤهلين لتدريس تقنياتٍ يجدون صعوبة في فهمها، لذا، من الضروري الاستثمار في التطوير المهني وبذل كل ما يمكن لإتاحة الموارد التي تُسهل على المعلمين فهم الذكاء الاصطناعي، وبالتالي منحهم الثقة والقدرة على تدريس المهارات ذات العلاقة بفعالية.
ويمكن للتعاون بين المؤسسات التعليمية وشركات التكنولوجيا وصناع القرار أن يضمن تطوير المناهج الدراسية بشكلٍ يواكب التقدم التكنولوجي، حيث تتمتع شركات مثل (OpenAI) و(Anthropic) بمكانة مميزة تمكنها من تقديم رؤىً قيّمة حول قدرات أدوات الذكاء الاصطناعي والتطورات المستقبلية المحتملة، على أن يتم الانتفاع من هذه المعلومات لإعداد مواد تعليمية ليست ذات صلة وحسب، بل أيضًا ذات طبيعة استباقية لتواكب الاتجاهات المستقبلية، كما يجب على هذه الشركات أيضًا أن تبذل جهودًا موجّهة لتتيح نماذجها للمجتمع العلمي كمصادر مفتوحة بشكلٍ يسمح بتحليل وظائفها بالتفصيل، فالتطوير المسؤول لأدوات الذكاء الاصطناعي ينطوي على الشفافية وإمكانية الوصول للجميع، لأن هذه التقنيات قادرة على تغيير مجتمعاتنا بشكلٍ كبير، ولا ينبغي أبدًا أن تأتي الأرباح في هذا المجال على حساب المسؤولية الاجتماعية.
ويؤدّي الأبوان أيضًا دورًا محوريًا في تعزيز الثقافة الإعلامية لدى الأبناء، ففي البيت، يتسنى للأبويْن استكمال رحلة التعليم المدرسي من خلال الانخراط في نقاشاتٍ مع أبنائهم حول طبيعة المحتوى والتكنولوجيا التي تُستخدم في إنتاجه، وكذلك يمكن حثّ الأبناء على التفكير النقدي من خلال مناقشة كيفية وسبب إنتاج بعض المواد الإعلامية واستكشاف النوايا الكامنة وراء نشرها. هذه المناقشات من شأنها أن تساعد الأطفال في تطوير نهج متشكك وفضولي في الوقت نفسه تجاه المحتوى الرقمي، لذلك يتحتم أن تكون الثقافة الإعلامية جزءًا من الخطاب الأساسي الذي يحدد إطار التفكير الافتراضي بين الشباب خلال سنوات نموهم.
ولا ينبغي أن يُنظر إلى الثقافة الإعلامية على أنها مجموعة من المهارات الثابتة والجامدة، بل هي إطار فكري يتطور باستمرار ويتكيف مع المشهد الإعلامي الجديد، فكما تطورت صناعة الإعلام تطورًا كبيرًا، بدءًا من الوسائط المطبوعة والرقمية إلى المحتوى الذي يتم إنتاجه باستخدام الذكاء الاصطناعي، كذلك يجب أن تتطور مناهجنا في فهم المحتوى الإعلامي والتفاعل معه.
ومع استمرار الذكاء الاصطناعي والتقدم التكنولوجي في إحداث تغييرات جذرية في مجال الإنتاج الإعلامي، يجب أن تتطور استراتيجياتنا التعليمية لتواكب ذلك، ولا يقتصر دمج الثقافة الإعلامية في التعليم على حماية عقول الشباب وحسب، بل يتجلى أحد أدوارها الهامة في إعدادهم للإبحار في العالم الرقمي بوعيٍ ومسؤولية، ومن خلال تعزيز الفهم العميق لآليات الإنتاج الإعلامي الرقمي، فإننا نساهم في إعداد جيلٍ يمارس التفكير النقدي، فضلًا عن امتلاك القدرة على أن يكون جزءًا فاعِلًا في تطوير التقنيات التكنولوجية واستخدامها بطريقةٍ تعود بالفائدة على المجتمع.
** الدكتور جورج ميكروس يعمل منسقًا للبرامج في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حمد بن خليفة في قطر.
** تم تقديم هذا المقال من قبل إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابة عن مؤلفه، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عنه ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.