استكشف سبل توغل لغة الماندرين في قطر
الهيئة:  كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية
بيت الباندا في قطر

يتناول هذا المقال العلاقات الدبلوماسية بين قطر والصين، كما يتطرق للاستراتيجيات التي تعتمدها الصين في نشر ثقافتها ولغتها في مجتمعات دولها الصديقة. مشيرًا إلى الدور الذي يلعبه مركز اللغات بجامعة حمد بن خليفة في تعليم لغة الماندرين وتعزيز التبادل الثقافي بين الدولتين.

قد لا تكون لغة الماندرين الصينية هي اللغة الأولى التي تخطر في عقلك عندما تفكر في دولة قطر، ولكنها مؤخرًا باتت تشق طريقها بتأنٍ وهدوء نحو الفصول الدراسية، والمناسبات الثقافية العامة والدبلوماسية. فقد بدأ الأمر بإرسال حيوانات الباندا العملاقة وصولا لطرح دورات اللغة، وتتميز قصة لغة الماندرين في قطر بالتأثير الخفي والمواءمة الاستراتيجية، لخلق تحولات جيوسياسية ذات نطاق واسع.

ففي عام 2022، وصل زوج باندا جميل إلى حديقة الخور للحيوانات في دولة قطر وذلك تزامنًا مع مونديال كأس العالم لكرة القدم قطر 2022 . وكان اسم الزوجان في بادئ الأمر هو Si Hai وJing Jing، ولكن تم تغيير اسميهما إلى سهيل وثريا، وقامت الصين بإرسالهما كلفتة ودية بهدف توطين رمز التراث الصيني (حيوان الباندا) في الثقافة القطرية. ويتعين علينا ألا ننظر لزوج الباندا على أنهما مجرد تميمتان لطيفتان؛ فهما سفيران دبلوماسيان، وهذه استراتيجية صينية قديمة الأمد تعرف باسم "دبلوماسية الباندا"، وتهدف للتعبير عن حسن النوايا بإرسال الهدايا الرمزية. ومن الجدير بالذكر أن قطر هي أول دولة في الشرق الأوسط تتعاون مع الصين في مجالي البحوث والحفاظ على الباندا.

وسرعان ما ذاع صيت حيوانات الباندا، وتسارعت الحشود لرؤيتها في أول حديقة للباندا بالعالم العربي، وساهمت هذه الاستراتيجية في التعريف بلغة الماندرين في بيئة قطر اللغوية. وتظهر اللافتات في بيت الباندا كتابات بكل من اللغة العربية والإنجليزية والماندرين، وهي إحدى الأماكن القليلة في قطر التي تطل فيها اللغة الصينية بشكل بارز. وبوسع الزوار الاطلاع على رحلة الباندا من الصين إلى قطر ودورها الرمزي في تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين.

حضور الصين في قطر 2022

لم تكن حيوانات الباندا الدلالة الوحيدة على حضور الصين في قطر أثناء كأس العالم، فلقد ظهرت لغة الماندرين الصينية في بعض الإعلانات الآلية على حافلات النقل، كما وعرضت عناصر متنوعة من الثقافة الصينية في عدة معارض ثقافية أقيمت بساحات الملاعب. ولقد تضمن جناح المعرض الذي رعته السفارة الصينية فنون الخط التقليدي وفن الكوجو، وهو شكل صيني قديم لكرة القدم. وتعكس هذه المساهمات تطور العلاقات بين قطر والصين في مجالات التجارة والطاقة والتبادل الثقافي.

وامتد دور الصين في كأس العالم إلى ما هو أبعد من مجرد لفتات ثقافية، وأظهر الحدث الرياضي عُمق العلاقات الاقتصادية المتجذرة بين البلدين. إذ قامت شركة السكك الحديدية الصينية بإنشاء استاد لوسيل الشهير، الذي أقيمت فيه عدة مباريات رئيسية، كما أقلت العديد من الحافلات الصينية الصنع المشجعين إلى مختلف الملاعب. وفضلًا عن إرسال الصين العديد من الهدايا التذكارية، ومن ضمنها التميمة الرسمية لكأس العالم "لعّيب"، إلى جانب 100 ألف كرة قدم وهدايا تذكارية أخرى. إلا أن الملاحظة التي تكررت كثيرًا أثناء كأس العالم هي أن العنصر الصيني الوحيد المفقود هو المنتخب الصيني الذي لم يتأهل للبطولة.

وبالرغم من المساهمات الاقتصادية والثقافية الكبيرة للصين في كأس العالم، إلا أن انتشار لغة الماندرين ظل متواضعًا نسبيًا. إذ تصدرت اللغتان الإنجليزية والعربية الاعلانات، مما حد من ظهور الماندرين في المشهد اللغوي والثقافي في قطر.

لغة الماندرين كوسيط دبلوماسي

تعتبر لغة الماندرين أكثر من مجرد لغة؛ فهي إحدى أدوات القوى الناعمة؛ إذ تلجأ الصين إلى تقوية علاقاتها الثقافية والاقتصادية من خلال الترويج للغتها في الدول الأخرى. وقد بدأت قطر في تبني هذه الفكرة بحذر مقارنة بجاراتها، الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، فقد أقدمت هذه الدول على دمج لغة الماندرين في المدارس الحكومية، علاوة على افتتاح معاهد كونفوشيوس.

وتترأس جامعة حمد بن خليفة طليعة هذه الجهود. فمنذ عام 2014، شرع مركز اللغات التابع لجامعة حمد بن خليفة بتقديم دورات لغة الماندرين للبالغين، والتحق بها أكثر من 800 طالب. وبحلول عام 2017، توسع البرنامج ليشمل تقديم الدروس للأطفال أيضًا. ويعتبر الكثيرون تعلم لغة الماندرين بهدف توسيع علاقاتهم التجارية أو للدراسة هناك أو لتغذية فضولهم الثقافي وسيلة لمواكبة النفوذ الصيني العالمي. وتراعي فصول لغة الماندرين في جامعة حمد بن خليفة احتياجات المتعلمين كافة، من مسؤولين حكوميين أو مهنيين يسعون لدخول عالم الاقتصاد الصيني المزدهر. كما وتهتم هذه الفصول بالعائلات الصينية المغتربة، وتساعدهم في التمسك بثقافتهم ولغتهم.

وبالإضافة إلى دروس اللغة، فقد بدأ الطلاب القطريون في السفر إلى الصين والانضمام لفعاليات مثل "مخيمات الجسر الصيني الصيفية"، للانخراط في تعلم اللغة والتعرف على الثقافة الصينية. وفي عام 2023، حضرت الدفعة الأولى المكوّنة من 13 طالبًا من جامعة حمد بن خليفة هذا المخيم، ودرسوا فيه لغة الماندرين، واطلعوا على التقاليد الصينية عن قرب، وتفاعلوا مع المعلمين والطلاب المحليين. كما شارك 20 طالبًا قطريًا من طلاب المدارس الثانوية القطرية، اختارتهم وزارة التعليم والتعليم العالي في قطر، في برنامج استمر 26 يومًا في جامعة بكين للدراسات الأجنبية. وجمعت هذه المبادرة بين دروس اللغة والتبادل الثقافي والرحلات كجزء من مشروع شامل يرنو لتوسيع مجال تعليم اللغات الأجنبية في قطر. وفي عام 2024، انضم المزيد من الطلاب القطريين إلى مثل هذه البرامج الصيفية.

وقد أدت السفارة الصينية في الدوحة دورًا فعالًا في تعزيز هذه التبادلات. وتبرعت بآلاف الكتب لمركز اللغات بجامعة حمد بن خليفة، وتعاونت في تنظيم عدة فعاليات ثقافية، مثل فعالية التبادل الثقافي واللغوي بين الصين وقطر، والتي أقيمت في ديسمبر 2024. وفيها ألقى العديد من الطلاب القطريين خطابات بلغة الماندرين، وأظهروا حماسهم لتعلم اللغة، في حين بادر آخرون بتقديم وصف لقصيدة صينية كلاسيكية. وبالمثل، خاطب الطلاب الصينيون الجمهور باللغة العربية، وشاركوا تجاربهم الثقافية والاجتماعية والتعليمية الثرية في قطر. وأكدت المجموعتان على أن تعلم لغة بعضهما البعض، ساهم في تعزيز التواصل بينهما وبنى أواصر الصداقة بين المجتمعين القطري والصيني.

وأشار سعادة السفير الصيني لدى دولة قطر "تساو شياولين" إلى ازدهار التبادل الثقافي والشخصي بين الشعبين القطري والصيني مؤخرا. فقد أبرم متحف قطر الوطني في عام 2024 مذكرة تفاهم مع كلٍ من المتحف الصيني الوطني ومتحف العاصمة بكين. وقدمت فعاليات مثل "شينجيانغ مكان جميل"، و"أنشطة سيشوان الثقافية والسياحية"، "ومرحبًا بكين" عروضًا ترويجية سياحية حول الثقافة الصينية للجمهور القطري. وللمرة الأولى، ضمّ معرض الدوحة الدولي للكتاب 2024 جناحًا صينيًا، عُرضت فيه كتب بكل من اللغة الإنجليزية، والعربية، والماندرين الصينية.

الاندماج الحكيم

وعلى الرغم من كل هذه المبادرات، لا تزال الماندرين إلى حد كبير على هامش نظام التعليم والمجال العام في قطر مقارنة باللغتين العربية والإنجليزية. وعلى عكس المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتان سرعان ما بادرتا بدمج لغة الماندرين في المناهج الدراسية الحكومية، أخذت قطر خطوات متأنية ورزينة بالدمج. ففي حين كانت جامعة حمد بن خليفة رائدة في مجال الدورات اللغوية، إلا أنها لم تشرع بعد بتنفيذ خطط إنشاء معهد كونفوشيوس التي تم وضعها في عام 2019، ولم يتم طرح الماندرين على نطاق أوسع في الجامعات الوطنية بدولة قطر. وبالإضافة إلى ذلك، فإن حضور لغة الماندرين في القطاع العام في قطر ضئيل للغاية. فباستثناء الأماكن مثل بيت الباندا أو لافتات المطاعم والمتاجر، فإنه نادرًا ما تكون اللغة الصينية مرئية. وهذا يتباين بشكل كبير مع دبي التي يوجد بها حي صيني مزدهر يقطنه عدد كبير من الصينيين، مما يجعل اللغة الصينية أكثر حضوراً.

ويساعد حجم قطر الصغير نسبيًا وموقعها الجيوسياسي الفريد في تفسير اندماجها الحذر للغة الصينية. وتاريخيًا، أقامت الدوحة شراكات قوية مع مختلف الدول الغربية، لا سيما في مجالات الدفاع والتعليم والثقافة، ولكنها تمكنت من الحفاظ على استراتيجية دبلوماسية متجذرة من الحياد والتواصل الحذر مع القوى العالمية. ويتطلب تحقيق التوازن بين هذه التحالفات الغربية الراسخة منذ القدم والتمسك بعلاقات متنامية مع الصين نهجًا مدروسًا، تتنقل فيه قطر بعناية، محافظةً على تألقها في الساحة العالمية، ومتمسكةً بعلاقاتها الوطيدة مع شركاء مؤثرين متعددين. وفضلًا عن ذلك، تميل دولة قطر إلى التعامل مع الدبلوماسية الثقافية بعناية ودقة، حرصا على هويتها الوطنية وبما يتوافق مع رؤية قطر الوطنية 2030.

مستقبل لغة الماندرين في قطر

ورغم نهجها الحذر، فمن المرجح أن يتزايد استخدام لغة الماندرين الصينية في قطر، نتيجة توسع العلاقات الاقتصادية بين الصين وقطر في السنوات المقبلة، ومن المتوقع البدء بتعليم اللغة الصينية في المدارس الحكومية في قطر، كما تعمل جامعة حمد بن خليفة أيضًا على إنشاء مركز مؤهل لإعداد وتقديم اختبارات الماندرين، الأمر الذي يُسلط الضوء على الإقرار الاستراتيجي بنفوذ الصين العالمي المتنامي.

وختامًا، من بيت الباندا إلى الفصول الدراسية، شقت لغة الماندرين الصينية طريقها بثبات في قطر. والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت قطر ستحتضن لغة الماندرين بالكامل كونها تمثل جسراً ثقافياً واقتصادياً لإحدى أكثر الدول تأثيراً في العالم. ولكي تحظى لغة الماندرين بمكانة راسخة فإنه يتعين دمجها بشكل أوسع نطاقا في قطاع التعليم العام والحياة اليومية. وفي الوقت الراهن، يبدو أن قطر تركز على تعزيز الدبلوماسية الثقافية والتبادل العلمي التي تهدف لتحقيق الاندماج الهيكلي الشامل للماندرين. وستكشف السنوات القادمة الستار عما إذا كانت قطر تعتبر الماندرين أداة لمشاركة عالمية أعمق عوضًا عن كونها مجرد مكسبًا دبلوماسيًا.

*كتبت هذا المقال: الدكتورة سارة هيلمان، أستاذ مشارك في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حمد بن خليفة.

* تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفته، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكاتبة ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.