بقلم/ جميلة مهدييفا
لأول مرةٍ في التاريخ، سنشهد مساواةً بين الجنسين في دورة الألعاب الأولمبية في باريس، وهي لحظة فارقة في عالم الرياضة الدولية، كما يُعتبر هذا الإنجاز انتصارًا للنساء في الرياضة، وانعكاسًا للتغييرات الكبيرة في المعايير المجتمعية المتعلقة بالمساواة بين الجنسين. وتُعد قصة مشاركة المرأة في الألعاب الأولمبية مثالاً على التقدم الذي أُحرز على مدار عقودٍ من الحِراك المستمر والجهود الرامية إلى تحسين السياسات وتعزيز الالتزام العالمي بالإنصاف والشمولية.
كانت الألعاب الأولمبية في بداياتها حكرًا على الرياضيين الذكور، ولم تبدأ النساء بالمشاركة في النسخة الحديثة من الألعاب إلا عام 1900 (والتي أقيمت في باريس أيضًا). وعلى مدار القرن الماضي، كانت رحلة مشاركة النساء مليئةً بالتحديات ومُلهِمةً في الوقت ذاته، فقد اقتصرت في البداية على عددٍ محدودٍ من الرياضات، ثم بدأت النساء في كسر الحواجز تدريجيًا، واتّسعت مشاركاتهنّ لتشمل المزيد من الرياضات والمجالات، ليحققن بذلك حضورًا مماثلًا لنظرائهن الرجال، وهي لحظةٌ تاريخيةٌ تلك التي نشهد فيها صعود نسبة تمثيل المرأة إلى 50% في باريس، بعد قرنٍ من التفاني والعمل الدؤوب.
ومع ذلك، فإن تحقيق التكافؤ العددي لا يعالج كل القضايا الأساسية، مثل النظرة الدونية للرياضة النسائية والطابع الرمزي لبعض المشارَكات، وقد يُنظر إلى هذا التكافؤ على أنه مظهرٌ من مظاهر التقدم، لكنه يُداري الحاجة إلى إجراء تغييرات هيكلية أعمق في المجتمع، فبينما يتم الاحتفاء بمشاركة النساء في الرياضة، تظل القيمة الحقيقية للرياضة النسائية ومستوى الاعتراف بها في مكانةٍ أدنى مقارنةً برياضة الرجال.
إن تحقيق نسبة 50% من مشاركة النساء في الألعاب الأولمبية لا يقتصر على تغيير الإحصائيات فحسب، بل يتحدى الهياكل الاجتماعية المتجذرة التي تحكم الرياضة وما يحيطها، ويتجلى ذلك في النظرية التقاطعية لكيمبريلي كرينشو التي تستكشف التأثير الكبير والجوهري للعرق والجنس والجنسية والدين على تجارب الإناث، ووفقًا لكرينشو، وهي باحثة بارزة في النظرية العرقية النقدية، تتفاعل الجوانب المختلفة من هوية الفرد وتؤثر على بعضها البعض، مما يخلق نمطًا متنوعًا ومعقدًا من الفروقات والامتيازات بين الأفراد.
وبتطبيق هذا المنظور على مجال الرياضة الدولية، لا سيما الألعاب الأولمبية، يمكننا استكشاف كيفية تأثير هذه الهويات المتقاطعة على مشاركة الإناث القادمات من خلفيات متنوعة وعلى التصورات المبنية عنهنّ، فعلى سبيل المثال، تخوض الرياضيات القادمات من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بالذات المسلمات منهن، تحدياتٍ من نوعٍ خاص تتداخل فيها التوقعات الثقافية والممارسات الدينية مع البيئة الرياضية العالمية، وهذه التحديات والعقبات تختلف اختلافًا كليًا عن تلك التي تواجهها نظيراتهنّ في مناطق أخرى.
وإلى جانب ذلك، يمكن أن تصبح بعض الممارسات الدينية، مثل ارتداء الحجاب، مواضع خلافٍ وجدل في الألعاب الرياضية التي تتطلب زيًا موحدًا، وهذا يضيف مستوىً آخر من التعقيد، مما يستلزم ترتيباتٍ إضافية تحترم الالتزامات الدينية للاعبات وتسمح لهن في الوقت نفسه بالتنافس على قدم المساواة مع غيرهنّ، وإنّ رد الفعل الذي يُبديه المجتمع الرياضي الدولي تجاه هذه الاحتياجات، سواء كان داعمًا أو مُعيقًا، يؤثر بشكلٍ كبير على تجارب اللاعبات والفرص المتاحة لهنّ.
وبالتالي، فإن تقاطع الجنس مع العناصر الأخرى للهوية، مثل الدين والجنسية، لا يزيد فقط من التحديات التي تواجهها هؤلاء اللاعبات فحسب، بل يغيّر تجاربهنّ كليًا، وهذا يبرز أهمية وضع سياسات وممارسات في الرياضات الدولية بحيث تراعي وتدعم الاحتياجات والهويات المتنوعة لجميع الرياضيين وتعزز الشمولية والمساواة الحقيقية في مضمار الألعاب الأولمبية.
وبالنسبة للرياضيات المسلمات، لا تتجلى هذه التقاطعات في شكل تحدياتٍ ثقافيةٍ ودينيةٍ داخليةٍ فحسب، بل تتعقد أكثر بسبب ظواهر العنصرية ومعاداة الإسلام (الإسلاموفوبيا) المنتشرة في الرياضات الدولية.
ويتعرض الرياضيون المسلمون، وخاصة النساء، في الأوساط العالمية، للتفرقة والتدقيق الذي يتجاوز الحدود الوطنية والثقافية، ففي الرياضات الدولية، كثيرًا ما تواجه النساء المسلمات تحيزات معادية للإسلام تصوّرهنّ كمضطهدات أو غير قادرات على ممارسة الرياضة بسبب انتماءاتهن الدينية والعرقية، وهذه الصور النمطية متجذرة بعمق في النظرة الغربية للإسلام، وتزداد حدتها في مجال الرياضة، حيث تعتبر الحرية الجسدية والظهور العلني أمورًا فائقة الأولوية.
ولمواجهة هذه التحديات بصرامة، لا بد من اعتماد نهجٍ في إدارة الرياضة الدولية يعترف بأوجه التمييز التي تواجهها المرأة المسلمة ويتصدى لها، كذلك ينبغي إعادة النظر في السياسات المعمول بها وتعديلها بما يضمن عدم تشجيع التحيزات العرقية والدينية، وإن كانت غير مقصودة، ويشمل ذلك مواءمة قواعد الزي الرياضي، وتعزيز الوعي الثقافي بين المسؤولين الرياضيين والجماهير، والترويج للخطابات التي تحتفي بالتنوع والتعددية بدلًا من تكريس القوالب النمطية.
ومن خلال معالجة مثل هذه القضايا البنيوية، سيتسنى للمنظمات الرياضية الدولية ترسيخ مبادئ العدل والمساواة بشكلٍ أفضل، وإنّ الإقرار بوجود عقبات تواجهها الرياضيات المسلمات، كالعنصرية والإسلاموفوبيا، ومكافحتها، لا يقتصر أثره فقط على تحقيق المساواة بين الجنسين، بل يمتد ليشمل تحقيق النزاهة الرياضية والوفاء للروح الأولمبية التي تطمح إلى توحيد الشعوب المختلفة في منافسات سلمية وعادلة.
وبالرغم من هذه التحديات، إلا أن مشاركة لاعبات، مثل المبارِزة المصرية شيماء الجمال، والرامية القطرية بهية الحمد، تمثل تقدمًا نوعيًا، ولا يقتصر نجاحهما على الإنجازات الفردية فحسب، بل يمثل أيضًا تحولًا ثقافيًا واعدًا يتحدى القوالب النمطية في بلديْهما والعالم.
لقد أصبحت قصص نجاح اللاعبات الأولمبيات عنصرًا قويًا في الخطاب المتعلق بالمساواة بين الجنسين، حيث تجسد هؤلاء الرياضيات مفاهيم الإرادة والتفاني والبراعة وتضربْنَ أروع الأمثال، ليس فقط لغيرهنّ من الرياضيات الطموحات الناشئات، بل لكل أولئك المدافعين عن المساواة في أي مجال في العالم، ولعلّ أحد أهم مكاسب ذلك هو الإلهام الذي تمرره المحترفات إلى الفتيات الصغيرات في جميع أنحاء العالم، واللاتي إذْ يتابعن الألعاب الأولمبية الآن يُدْركن أن أحلامهن لا حدود لها، وأنهن أيضًا قادراتٍ على الطموح ومخولاتٍ لتحقيق إنجازاتٍ عظيمة في أي مسعىً يخترنَه، حتى وإن هيمن عليه الرجال.
وتمتد الآثار المترتبة على تحقيق المساواة بين الجنسين في الألعاب الأولمبية إلى ما هو أبعد من الرياضيين أنفسهم، فهي تتجلى أيضًا في وسائل الإعلام، وعقود الرعاية، والجوانب التجارية الأوسع من ذلك في مجال الرياضة، لتحقق بذلك توازنًا تدريجيًا يعترف بالرياضيات ويرعاهنّ، ومع ذلك، يتعين علينا الاستمرار في المناشدة بسياسات لا تقتصر على زيادة الدعم كمًا، بل وكيفًا أيضًا، ولا بد من مواصلة الجهود لضمان معالجة القضايا الأخرى، مثل التفاوت في الأجور، وتوفير فرص تدريب متساوية، وتعزيز دور المرأة في الأدوار القيادية داخل المؤسسات الرياضية.
وفي حين أنّ تحقيق المساواة بين الجنسين في الألعاب الأولمبية يعد نقطةً فارقةً في تاريخ الرياضة وخطوةً نحو إرساء العدالة الشاملة، إلا أنه، في الوقت نفسه، يضع نُصب أعيننا على الدوام التحديات المذكورة آنفًا، وعلى الرغم من ذلك، تأتي دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024 لتؤكد أنّ الجهود ما زالت مستمرة سعيًا نحو منظومة رياضية شاملة وعادلة، هي جزءٌ من عالمٍ يكافح من أجل تحقيق العدالة للجميع، بغض النظر عن جنسهم.
** جميلة مهدييفا محللة مشاريع في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حمد بن خليفة.
* تُقدم هذا المقال إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابة عن مؤلفته، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عنها ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.