اللغة العربية في يومها .. إرثٌ ومستقبل

تحتفي الأمم المتحدة كل عام في الثامن عشر من ديسمبر بيوم اللغة العربية، والتي اعتمدتها كلغة سادسة عام 1973. وفي هذا المقال يكتب الدكتور محمود محمد الحرثاني الباحثٌ بجامعة حمد بن خليفة إن اللغة العربية قائمة قبل أكثر من 1500 عام، واستطاعت عبر القرون المتتالية ان تستوعب جميع العلوم والمعارف من خلال الترجمة، حيث تمكنت العربية من تعريب علوم كثيرة: كالإعلام والصحافة والقانون وعلوم المال والأعمال والعلوم الاجتماعية مع ما يندرج تحت كل علمٍ من خطاب خاص به استوعبته العربية

الهيئة:  كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية
الدكتور محمود محمد الحرثاني

دشنتْ الأمم المتحدة العربية لغةً سادسةً من لغاتها المعتمدة عام 1973، وتحتفي بها كل عام في الثامن عشر من ديسمبر. ولكن العربية قائمة قبل أكثر من 1500 عام، ولما جاء الإسلام انتقلت معه نقلة كبرى إذ تنزل الوحي بها لتصبح بعد ذلك لغة الدين والعلم والأدب والفلسفة ولتسهم في بناء هوية مشتركة ذات أمم مختلفة، لتبلغ أوج ازدهارها إبان العصر الذهبي (من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر الميلادي)، حيث أمست اللغة العلمية والثقافية الأولى في العالم. والحقيقة أن هذا الشأو البعيد الذي وصلته العربية لم يكن ليحصل دون انفتاح واثق على الآخر ومعدةٍ قوية مكنت العربية من هضم كثيرٍ من علوم الأمم الأخرى. وليس الهضم هنا أمرٌ هين، بل هو عملية معقدة، جسورٌ خلاقةٌ يتخللها اقتراض وتجنيس وإحياء واشتقاق ونحت وإضافة وحذف في حركة دائبة من التحصيل والتأثيل والتأصيل. كما أنه لم يحصل دون مأسسة من نوعٍ ما، وهنا لا بد من استذكار مؤسسات مثل بيت الحكمة في بغداد الذي اضطلع بشأنٍ في ترجمة الأعمال الفلسفية والطبية من يونان وفارس والهند، ما ساهم في الحفاظ على تراث الحضارات القديم، وإثرائه والبناء عليه، إذ لم تتوقف العربية عند ترجمة العلوم والآداب والفلسفات، بل أبدعت في تطويرها ونقدها وتجاوزها. وفي كل تلك المراحل لم تتوانَ في تركيب حُللٍ جديدة بفضل الترجمة وتوليف مفاهيم تكسوها مصطلحات في عملية بناء تراكمي خلاق حتى ليقال إن من يتكلم العربية اليوم يسبح في بحرٍ من الترجمة والتخليق الاصطلاحي، يُستهل بالتوليد وينتهي بالدمج الكامل. خذ مثلًا العلوم الحديثة التي تتداولها الجامعات والثقافة العامة، فهذه جُل نسيجها ترجمة كانت فيها المحاولات في جلها ناجعة حيث تمكنت العربية عبر المئة سنة الأخيرة مثلًا من تعريب علوم كثيرة: كالإعلام والصحافة والقانون وعلوم المال والأعمال والعلوم الاجتماعية مع ما يندرج تحت كل علمٍ من خطاب خاص به استوعبته العربية. ولكي تدرك قوة العربية في حسن استقبال الوافد والإفادة منه تأمل الجملة التالية: "حجزتُ تذكرةً إلى عمان، وحين أقلعت الطائرة واستقررنا على متنها، تصفحتُ جريدة، ثم شاهدت فيلمًا وتابعت أخبار كأس آسيا". لن تلاحظ أن كل ما قرأت ترجمة أو طارئٌ على العربية في أصله، لأنه أُشربَ رويدًا رويدًا في نسيج العربية القادرة. ولو خرج الجاحظ الآن من قبره وعرضت له جملة كهذه لمال إلى أقرب شخص إليه ليسأله ما الطائرة وما الجريدة وما معنى فيلم وما ذلك الكأس الذي تُتابع أخبارُه؟ وليست تلك أول مرة، وإنما هذا ما فعلته العربية في عصرها الذهبي أيام المأمون، ثم أعادت الكرة في عصر محمد علي في تجربة ثرية دامت ستين سنة كانت فيها العربية لغة العلوم في مصر، ولكنها سرعان ما أجهضت بفعل الاحتلال الإنجليزي لمصر. 

 ولا يمكن لأحدٍ أن يتحدث في علومٍ كثيرة اليوم دون الرجوع إلى علماء عرب ومسلمين من أمثال الكندي (801- 873 م) وابن سينا (980- 1037م) والخوارزمي (780-850م) والفارابي (874- 950م) والبيروني (973- 1048م)، أول عالم أنثروبولوجي يتقصى أحوال الأمم ويدون ملاحظاته عنها بالعربية، كما يبين العلامة سيد فريد الدين العطاس في دراساته. ولم يتوقف فضل العربية على العرب، وإنما تعداه إلى الغرب حيث كانت العربية طريق التنوير في العالم الغربي طرًا، إذ ترجم هؤلاء ما في العربية من علوم كالطب والرياضيات والفلسفة والأدب إلى اللاتينية إبان عصر النهضة حتى ليقال إن سونيتات شكسبير ما هي إلا نسجٌ على منوال موشحات الأندلس، كما بين كمال أبو ديب في مقدمته لترجمته البديعة للسونيتات. ويجمل بنا النظر إلى الاحتفاء بالعربية في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام وفقًا لقرار منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) عام 2010، على أنه اعترافٌ بعديٌ، لا قبليٌ، بعملية متراكمة من الإثراء الحضاري. بعبارة أخرى، لم يكن اعتراف الأمم المتحدة بالعربية من باب المجاملة التاريخية، بقدر ما كان إدراك لموقع العربية في التاريخ. 

ولا عجب في ذلك، فالعربية كانت جسرًا فعالًا، لا جسرًا سالبًا، في مسار التواصل الإنساني عبر أدوات كثيرة كالارتحال والترجمة والتعليقات والشروح، كشروح ابن رشد لأعمال أرسطو التي انتقلت فيما بعد إلى الغرب، وصناعة القواميس. وأما صناعة القواميس، على سبيل المثال، فيكفي القول إنها تظهرُ تتويجًا لصيرورة ممتدة من الإبداع اللغوي والتخليق الثقافي يقتضي معه الحال أن تودَع اللغة بين دفتي كتاب يوثق حضورها كما فعل الخليل ابن أحمد الفراهيدي الذي أتحف العربية بأول قاموس، ولعله أول من صنف في هذا الباب على الإطلاق في تاريخ اللغات التي تكون مع ظهور القواميس قد بلغت ذروةً من ذرى التطور الحضاري. فحين صنف الخليل بن أحمد الفراهيدي (718- 786م) قاموسه العين في القرن الثاني الهجري، لم تكن للغة الإنجليزية مثلًا قد قُيدتْ بعدُ في الكتب، بل كانت ما تزال على الألسنة، ويكفي القول إن أول قاموس إنجليزي ( A Dictionary of the English Language, 1755)، وهو قاموس دكتور جونسون (1709- 1784)، ظهر بعد قاموس الخليل بنحو ألف سنة. ومن حظ العربية اليوم أنها تجري على ألسنة أكثر من 450 مليون من العرب حيث العربية لغة رسمية في 25 دولة وأكثر من ضعفيهم من غير العرب ممن يدينون بالإسلام الذي نزل كتابه المعجز بلسان عربي مبين. وحين أصدرت الأمم المتحدة قرارها يوم 18 ديسمبر 1973 بإدراج العربية ضمن لغات الأمم المتحدة الرسمية، كانت في الحقيقة تضع الأمور في نصابها. 

ولا يعود ما يعرف بضعف المحتوى العربي على الإنترنت (3%) لعلةٍ فيها في المقام الأول، بل لعللٍ أخرى أظهرها ربما نظامٌ جثم على صدره استعمار معرفي ثقافي لغوي حينًا من الدهر، فرضت فيها الأدوات الاستعمارية ولا سيما الرأسمالية بأدواتها المختلفة لغات بعينها على اعتبار أنها جسور الانتشار وذيوع الصيت وإنتاج المعرفة. وبهذا أضحى من ينشر، ولا سيما في عالم الإنتاج المعرفي، بلغته الأصلية من أبناء العالم الثالث، إن جاز التعبير، ومنهم العرب، مظنة الإهمال والتجاهل على الساحة العالمية، مهما بلغ شأوه وعَمُقَ فكره. وبهذا صار المفكرون في ورطة معرفية أخلاقية: فإما أن ينشروا بلغتهم فيعاقبوا تلقائيًا بإهمال إنتاجهم على الساحة العالمية، وإما أن ينشروا بلغات الاستعمار الثقافي فتنكرهم لغاتهم وثقافاتهم، وهذا جارٍ في العربية التي تخسر خيرًا كثيرًا في قسمة معرفيةٍ ضيزى، لكن أمة العربية لا تستسلم ولا تفتأ تحاول. وكما نجحت العربية في بغداد المأمون وقاهرة محمد علي ستنجح الآن وتزدهر غدًا. 

وهنا لا بد من التنويه بالمشاريع المبشرة التي تنهض من آن لآخر في منطقتنا العربية حفاظًا لتراث العربية وضنًا به أن يندثر، بل وبإصرار على النهوض به وبها، إذ لا ينقضي زمنٌ دون أن تنبري ثلةٌ من النابهين فيؤسسون مؤسسات ويؤثلون مشاريع ترمي إلى أن تأخذ العربية موقعها التي تستحق بين اللغات. من هذه المشاريع التي يمكن أن يقال إنها منارات في طريق مزيد حضور للعربية في العالم: مشروع فنار الذي يضطلع بتطوير المحتوى الرقمي العربي. وكذلك معجم الدوحة التاريخي، والمعجم التاريخي للغة العربية بالشارقة، وجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي التي يحملُ شعارها من "العربية إلى البشرية" شحنات إيجابية تدل على إرادة الفعل والإرسال لا الاستقبال فقط. كما يجمل بنا التنويه إلى مشروع علمي واعد هو مشروع آرسيف الذي يعنى بالمحتوى العربي في عالم النشر العلمي والإنتاج المعرفي بالعربية. ومشاريع أخرى لا تقل أهمية كمشروع المركز القومي للترجمة في القاهرة الذي نحتاج إلى جانبه إلى كثير من المؤسسات والمراكز التي تُعنى بتوسيع نطاق استخدام العربية لغةً للعلوم والإنتاج المعرفي، لتأخذ دورها وموقعها التي تستحقه بين اللغات. صحيح أن حافظ إبراهيم قد لا يسره الوضع الحالي، وربما معه شيء من حق، ولكن نظرة أفقية ورأسية لأحوال العربية الراهنة تبصرنا بأن هذه اللغة لا تلين وأنها تعرف كيف تجد طريقها إلى الذُرى. 

*الدكتور محمود محمد الحرثاني باحثٌ بجامعة حمد بن خليفة. وقد حاز الدكتوراه في الترجمة والدراسات الثقافية من جامعة مانشستر، ونال جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي. 

*تنشر إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة هذا المقال بالنيابة عن مؤلفها، والأفكار والآراء الواردة فيه تعبر عن الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.