بقلم/ الدكتورة إليني بوليمينوبولو
منذ بداية الأزمة الأخيرة في غزة، والتي أدت إلى ما وصفته محكمة العدل الدولية بإبادة جماعية "محتملة" ضد الشعب الفلسطيني، لم تتوقف إسرائيل عن الانتهاك المنهجي لالتزاماتها باحترام حرية الصحافة والإعلام التي يفرضها كلٌ من القانون الإنساني وقانون حقوق الإنسان، وقد دفع القتل المتعمد للصحفيين فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخبراء آخرين في الأمم المتحدة، إلى إصدار بيان مشترك يدين إسرائيل ويُشير إلى "النمط الخطير من الاعتداءات والإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين"، كما يُشير البيان، الصادر في 1 فبراير 2024، إلى قصة الصحفي وائل الدحدوح، الذي فقد زوجته وطفليه وحفيده بسبب القصف الإسرائيلي، وتعرض لهجوم بطائرة بدون طيار أدى إلى مقتل زميله المصوّر الصحفي، قبل أن يفقد ابنًا آخر، والذي كان يعمل أيضًا صحفيًا في قناة الجزيرة.
ووفقًا لتقرير نشرته لجنة حماية الصحفيين في يناير 2024، فقد قُتل 83 صحفيًا وعاملاً في مجال الإعلام في فلسطين منذ 7 أكتوبر (97 حتى يومنا هذا)، معظمهم فلسطينيون، وقد أشار المعهد الدولي للصحافة إلى أن معظم حالات القتل هذه متعمدة ومدبّرة بشكل استراتيجي بغية القضاء على التغطية الموضوعية للأحداث، ويؤكد ذلك حقيقة أن عدد الصحفيين الذين تم اعتقالهم منذ أكتوبر 2023 قد جاوز الرقم 350 (هذا بالإضافة إلى أولئك القابعين من قَبل في السجون الإسرائيلية)، وفي العديد من الحالات جاء الاعتقال بدعوى الانتقام بسبب تغطيتهم للأحداث.
ويتضح ذلك أيضًا في الأدلة التي قدمتها منظمة مراسلون بلا حدود، ومنظمات أخرى، بهذا الشأن إلى المحكمة الجنائية الدولية، لاستخدامها في تحقيقاتها الجارية حول الوضع في فلسطين، وتذكر الأدلة أسماء العديد من الصحفيين الذين يُقال إنهم قُتلوا بنيران القناصة والهجمات المباشرة، ويأتي هذا إلى جانب حالات استهداف الصحفيين قبل عام 2023، مثل قصف مكاتب الجزيرة ووكالة "أسوشيتد برس" في مدينة غزة عام 2021، ومقتل الصحفية في قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة عام 2022.
ويُعتبر الاستهداف المتعمد لطواقم الصحافة والإعلام خلال النزاعات المسلحة انتهاكًا لقوانين الحرب التي تنص على وجوب حماية جميع المدنيين من الأعمال العدائية وعدم استهدافهم من قبل الأطراف المتنازعة تحت أي ظرف من الظروف، كما تشير المادة 79 من البروتوكول الأول الإضافي الملحق باتفاقية جنيف لعام 1949، بشكلٍ خاص، إلى وجوب حماية الصحفيين المنخرطين في مهام خطيرة في مناطق النزاع المسلح، وقد تم التأكيد على هذه الضمانات في قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1738/2006، الذي أدان الاعتداءات التي تستهدف الصحفيين في النزاعات المسلحة، وحثَّ الدول وجميع الأطراف المشاركة في النزاعات المسلحة على بذل قصارى جهدها لمنع انتهاكات القانون الإنساني الدولي ضد المدنيين، بما في ذلك الصحفيين ووسائل الإعلام والأفراد المرتبطين بهم، حيث شدّد القرار على أنه "يوجـد حظـر بموجـب القـانون الإنـساني الـدولي علـى الاعتـداءات الموجهة عن قصد ضد المـدنيين... والـتي تـشكّل، في حـالات الـنزاع المـسلح، جـرائم حـرب"، مشيرًا إلى "ضرورة أن تكـف الـدول عـن الـسماح لمـرتكبي هـذه الأفعـال الجُرميـة بـالإفلات مـن العقاب".
ويمثّل استهداف الصحفيين أيضًا انتهاكًا للالتزامات الدولية المتعلقة بحماية حق الصحفيين في الحياة والسلامة الجسدية بموجب قانون حقوق الإنسان، وترِد ضمانات هذه الحقوق في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي تُعتبر إسرائيل طرفًا فيه، وبالتالي، وفقًا للمعايير المتّبعة في هذا العهد الدولي، فإن الدول ملزمة بحماية المواطنين وغيرهم من الأشخاص الخاضعين لولايتها القضائية من أي انتهاكات للحق في الحياة، ولذلك، ينبغي للسلطات الوطنية إجراء تحقيق شامل في استهداف الصحفيين في غزة والضفة الغربية من خلال آليات قضائية مناسبة ومحايدة تنفَّذ بسرعة وبفعالية، ويشكل غياب هذا التحقيق انتهاكًا للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، بما في ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وينطبق هذا الأخير أيضًا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما هو موضح في فتوى محكمة العدل الدولية بشأن العواقب القانونية لبناء الجدار في الأرض الفلسطينية المحتلة.
ولا تقتصر جهود إسرائيل للسيطرة على تغطية الصراع في غزة بأي حال من الأحوال على سجن الصحفيين وقتلهم، فالقضاء الاستراتيجي على المعارضة يتم أيضًا من خلال فرض قيود على حرية التعبير، استنادًا إلى ذرائع عديدة كحماية مصالح الأمن القومي، وقد وضعت إسرائيل "نظام رقابة صارم"، كما ذكرت منظمة المادة 19 التي تتخذ من لندن مقرًا لها، وإن التطبيق التعسفي للقوانين التي تقيّد وسائل الإعلام قد ينزلق إلى مستوى القيود غير الضرورية وغير المتناسبة وغير المشروعة على حرية الإعلام التي تكفلها المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
وقد أكد العهد الدولي مراتٍ عديدة على أن الصحافة ووسائل الإعلام الحرة يجب أن تكون قادرة على التعليق على القضايا العامة دون رقابة أو قيود، وأنّ للجمهور كذلك الحق في تلقي ما تنتجه وسائل الإعلام هذه، فعلى سبيل المثال، في قضية الصحفي رافائيل ماركيز دي مورايس ضد أنغولا، وجدت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أن القيود المفروضة على حرية التعبير، التي لا تستند إلى أحكام محددة بشكل كافٍ، وتسمح بالملاحقة الجنائية واحتجاز من يعارضون أو ينتقدون سياسات الدولة، هي ذات طابع عقابي وتعسفي في الأساس، وخلصت كذلك إلى أن مفهوم "التعسف" لا ينبغي أن يكون مساويًا ل"ضد القانون"، بل يجب أن يُفسر على نطاق أوسع ليشمل عناصر عدم الملاءمة، والظلم، وعدم القدرة على التنبؤ، والإجراءات القانونية الواجبة، وفيما يتعلق بالقوانين المقيِّدة للانتقاد، على وجه الخصوص، فقد نصت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وغيرها من هيئات حقوق الإنسان، مرارًا، على أن ضمانات حرية التعبير، بموجب العهد الدولي، تشمل حق الأفراد في انتقاد حكوماتهم وإبداء آرائهم فيها علنًا دون خوفٍ من التدخل أو العقاب.
وبالتالي، فإن القيود المفروضة على حرية وسائل الإعلام، حتى لأسباب تتعلق بالأمن القومي، ينبغي أن تخضع للتدقيق الشديد، وألا يُسمح بها إلا عندما تكون متناسبة وغاية في الضرورة، وبالإضافة إلى ذلك، فإن الالتزامات باحترام حرية التعبير لا تقتصر على الصحفيين، بل تنطبق أيضًا على الأفراد الآخرين، بما في ذلك المواطنين الصحفيين والمؤثرين في وسائل الإعلام الاجتماعي، ومع ذلك فقد تم القبض على العديد منهم وسجنهم فيما يبدو بسبب تعليقاتٍ نشروها على فيسبوك وغيره من منصات التواصل الاجتماعي.
وعلاوةً على ذلك، وبموجب المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ينبغي أن تكون وسائل الإعلام قادرة على الوصول إلى المعلومات، وينبغي أن تتم التغطية الإعلامية بشكلٍ حر دون خوف أو ترهيب، ولكن لا يزال الوصول إلى غزة غير متاح لعددٍ كبيرٍ من الصحفيين الدوليين، باستثناء أولئك الذين يعملون مع القوات العسكرية الإسرائيلية (وحتى هؤلاء الصحفيين "المرافقين" يحتاجون إلى الحصول على تصريح من السلطات الإسرائيلية قبل النشر)، ومع ذلك، فإن هذه القيود المفروضة على حرية الإعلام مفرطة، وتصل بالتالي إلى حد الانتهاك الصارخ للحق في حرية التغطية الصحفية والحصول على المعلومات.
وفي العديد من الحالات، لا تصدر الرقابة مباشرة من سلطات الدولة، بل تكون غير مباشرة أو مستترة، وغالبًا ما يتم ذلك من خلال إساءة استخدام بنود المسؤولية التعاقدية، حيث يستخدم أصحاب العمل صلاحياتهم التقديرية إما لتعليق العمل أو إنهاء العقود بسبب انتهاكات مزعومة لأخلاقيات المهنة وغيرها من القوانين، ومن الأمثلة على ذلك قضية أنطوانيت لطوف، التي قامت شبكة (ABC News) بإيقافها عن العمل بسبب تعليقاتٍ لها على وسائل التواصل الاجتماعي فيما يتعلق بحرب إسرائيل على غزة، كذلك لاقى جاكسون فرانك، وهو مراسل رياضي في فيلادلفيا، مصيرًا مماثلًا، حيث أُوقف عن العمل بسبب تغريدات مؤيدة للفلسطينيين على موقع "إكس"، كما خضع ستة صحفيين من هيئة الإذاعة البريطانية لإجراءات تأديبية بزعم إبدائهم تحيزًا مناهضًا لإسرائيل، وبغض النظر عما إذا كانت هذه الأنشطة غير مشروعة أم لا، فإن إجراءات وقف عقود العمل هذه عادة ما تؤدي إلى معارك قانونية، بما في ذلك مع الهيئات التنظيمية، والتي غالبًا ما تكون ضبابية ومكلفة وغير فعالة.
إن القيود المفروضة على حرية الإعلام في فلسطين تعيق بشكلٍ بالغ القدرة على تقديم تقارير دقيقة وتؤثر سلبًا على ثقة الجمهور، وبالتالي، فإن هذه القيود تشكل تهديدًا مزدوجًا، ليس فقط لنزاهة الصحافة، ولكن أيضًا لثقة الجمهور في المهنة، وفي نهاية المطاف، تضعف جودة المعلومات المتاحة للجمهور، بسبب التأثير المُحبِط للقيود المفروضة على الصحافة ووسائل الإعلام، مما يدفع الصحفيين إلى ممارسة الرقابة الذاتية، فقبل بضع سنوات، أوضح المدير السابق للمركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية (مدى) أن نسبة الرقابة الذاتية تتجاوز 80% في فلسطين، مما يعرقل الدور الأساسي الذي يجب أن تقوم به الصحافة في المجتمعات الديمقراطية، وهذا للأسف هو واقع الحال حتى يومنا هذا.
**الدكتورة إليني بوليمينوبولو تعمل أستاذًا مشاركًا في كلية القانون بجامعة حمد بن خليفة، وأستاذًا مشاركًا زائرًا في كلية إدموند وولش للعلاقات الخارجية في جامعة جورجتاون.
**هذا المقال مقدّم من إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابة عن الكاتبة، والآراء الواردة فيه تعكس وجهة نظر الكاتبة، ولا تعبّر بالضرورة عن الموقف الرسمي للجامعة.