الدخل الأساسي الشامل من منظور إسلامي
- الصفحة الرئيسة
- غرفة الأخبار
- الدخل الأساسي الشامل من منظور إسلامي
يرى الدكتور عبد العظيم أبو زيد أن مفهوم الدخل الأساسي الشامل يتوافق مع الشريعة الإسلامية وفي التاريخ ما يثبت ذلك
ازداد الاهتمام مؤخرًا، خاصةً من محلّلين غربيين، بالآراء التي تدعو الحكومات إلى توزيع دخل أساسي شامل على مواطنيها، ويتضمن هذا المقترح توفير مبلغ مالي شهري لجميع الأفراد بعد بلوغهم سناً معينًا، على أن يستمر ذلك طوال حياتهم، دون أن يُطلب منهم العمل بالمقابل، وبغض النظر عن وضعهم المالي، وقد تنامت الدعوات لتطبيق هذا النظام خلال جائحة كوفيد-19، حين بدأت بعض الحكومات في توزيع مبالغ مالية دورية على مواطنيها بعد استيفائهم بعض الشروط.
ويُدلي المؤيدون لمقترح الدخل الأساسي الشامل بحججٍ قويةٍ بدءًا من أن تلبيةَ الاحتياجات الأساسية لجميع المواطنين حقٌ إنساني في المقام الأول، كما يُسلّط بعضهم الضوء على دراساتٍ تشير إلى أن معدل البطالة سيستمر في الارتفاع بسبب التطور التكنولوجي وبروز تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي ستحل محل وظائف البشر، وهذا يدعم الحجج القائلة إنه إذا كان الدخل الأساسي الشامل كافيًا لتوفير متطلبات العيش، فإنه قد يمدّ الأفراد أيضًا بالحافز والوقت لتلقّي التدريب في مهنة تلهمهم حقًا وتُجزيهم على الاجتهاد والمثابرة، بدلاً من العمل لأسباب مالية فقط، وهناك أيضًا اعتقاد بأن الدخل الأساسي الشامل سيسهم في منح الآباء والأمهات المزيد من الوقت للعناية بأطفالهم وتربيتهم ليصبحوا مواطنين منتجين في المستقبل.
وتاريخيًا، نجدُ أن الإسلام على الأقل ملمٌ بمبادئ توفير الدخل أساسي شامل، بدليل أن توزيع الأموال على عامة الناس كان أمرًا شائعًا لعدة قرون، فكما تشير المصادر، اعتادت الدولة الإسلامية القديمة حصر مختلف النفقات على مدار العام ثم توزيع الفائض على الناس، رغم محدودية الموارد المالية قبل تتابع الفتوحات، وعندما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية خلال فترة الخلافة الراشدة وزادت الموارد، أصبحت الدولة الناشئة أكثر قدرة على دعم الناس ماليًا.
وكان توزيع الفائض على الناس يتم بالتساوي خلال عهد أبي بكر الصديق، قبل أن تُوضع له معايير معينة خلال حكم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب. ومن المعروف أيضًا أن عمر بن الخطاب، الخليفة الثاني في الإسلام، أنشأ ما يُعرف بـ "ديوان العطاء"، وهو سجل لمستلمي الفائض من خزينة الدولة، وكان يقوم بتوزيع الأموال سنويًا على جميع الناس وفقًا لمعايير محددة. وتضمّن ديوان العطاء سجلاتٍ بأسماء الأشخاص ومستحقاتهم، ولم يُستَثنى أحد، فقد وُزّعت الأموال على الشيوخ والشبان والأطفال الرضع، وعلى الأحرار والعبيد، وعلى القريبين والبعيدين، وحتى على المحتاجين من أهل الكتاب الذين عاشوا في الدولة الإسلامية. وكان التفاوت في توزيع الأموال مبنيًا على وقت اعتناق الفرد للإسلام، ومشاركته في الحروب، وقربه أو بعده من العدو، لأنّ أولئك الأقرب لجبهة العدو يتحملون عبء حماية الحدود.
أما الخليفة عمر بن الخطاب، فقد كان أيضًا يأخذ في الاعتبار حجم ثروة كل فرد، حيث كان حريصًا على عدم تركيز الثروة في أيدي مجموعة محدودة من الناس، وكان هذا، في الحقيقة، السبب الرئيسي الذي دفعه لعدم تقسيم أراضي العراق والشام التي فُتِحت خلال فترة حكمه. وبعد انقضاء عهد الخلافة الراشدة، بدأ الخلفاء في فرض بعض القيود على المساعدات الممنوحة للناس، وركّزوا في توزيع الأموال على أولئك الذين كانوا يعملون لصالح الدولة الإسلامية، وحماة الحدود، والمستحقين للمساعدة من بسطاء الناس.
وعليه، يُظهر التاريخ أن تأمين احتياجات الفقراء والمحتاجين كان مسؤولية أساسية للدولة الإسلامية، كما أن توزيع المال دون تمييز كان أيضا خدمة إضافية قدمتها الدولة في مراحلَ مبكرة دون أن يكون ذلك التزامًا واجبًا. ومن ثم، فإن هذا التوجه يندرج تحت إطار السياسة الشرعية، مما يعني أنه يخضع لاعتبارات المقاصد (تحقيق المصلحة العامة وتجنب الضرر). وهذا يعني أنه يجب على الحكومة أن تأخذ بعين الاعتبار الأضرار والمنافع المتوقعة (المصلحة) من مثل هذا القانون قبل تنفيذه.
ومن الجدير بالذكر أنه يمكن تكييف اعتبارات المصلحة لتعكس أنواع الضوابط والشروط المرتبطة بتوزيع الأموال على المواطنين في إطار سياسات الدخل الأساسي الشامل، فأولاً وقبل كل شيء، إذا كان هذا الدخل يؤثر على قدرة الدولة على الاضطلاع بمسؤولياتها، كتغطية نفقات الدفاع مثلًا، فلا ينبغي العمل به، وبالمثل، إذا كان الدخل الأساسي الشامل يؤثر على قدرة الدولة على تأمين الاحتياجات الأساسية لأشد المواطنين فقراً وضعفًا فهذا غير مقبول، كما لا ينبغي للدولة أن تغطي تكلفة توفير الدخل الأساسي الشامل من خلال زيادة الضرائب على العمال والشركات وبالتالي انعدام الفائدة المقصودة من هذا التوجه.
وينبغي أن تضمن الدولة أيضًا أن يساهم الدخل الأساسي الشامل في تشجيع التوظيفَ النشط والهادف، ولا يثني الناس عن العمل، كما لا ينبغي للدول الإسلامية توزيع الدخل الأساسي الشامل من خلال صندوق الزكاة الإلزامي، وذلك لأن للزكاة قنوات خاصة في الإسلام، ولا يجوز صرفها في غير هذه القنوات، إذا يُمثّل الفقراء والمحتاجون قنواتٍ أساسية للزكاة، بينما يعتمد الدخل الأساسي الشامل على إنفاق الأموال على الناس بغض النظر عن أوضاعهم المالية. وهذا يجعل تغطية تكلفة هذا الدخل الشامل كليًا أو جزئيًا من الزكاة أمرًا غير مقبول في الشريعة حتى لو أدى عمليًا إلى سدّ احتياجات الفقراء والمحتاجين.
وأخيرًا، تنص الشريعة الإسلامية على أن "درء المفاسد أولى من جلب المصالح"، وعليه، إذا كانت الدولة قد تكبدت ديونًا، فلا يجوز لها الإنفاق خارج التزاماتها الأساسية، وينبغي استخدام الفائض في سداد الدين، وذلك احترامًا لحقوق الدائنين ودرءًا لأي أضرار سياسية واقتصادية تسببها الديون عادةً، وعلى الدولة أن تنظر في الاحتفاظ بمبالغ مالية في الخزينة لتغطية النفقات الطارئة غير المتوقعة والحفاظ على مركزها المالي والاقتصادي في أوقات الازمات.
يتضح لنا أن مفهوم الدخل الأساسي الشامل هو في الأصل مشروعٌ ومألوفٌ في الإسلام، إلا أن تنفيذه من قبل الدولة يخضع لشروط وضوابط مختلفة تهدف في نهاية المطاف إلى ضمان تفوُق المنافع على أية أضرار محتملة، وهذا يعكس مبدأً أساسيًا وجوهريًا للنظرية الإسلامية في الاقتصاد ينص على أن كل ما ينطوي على منافع وأضرار محتملة يجب أن يُقاس بناءً على أيٍ منهما يفوق الآخر، وبالتالي، يمكن أن يختلف مدى قبول الإسلام للدخل الأساسي الشامل من زمانٍ لآخر ومن مكانٍ لآخر، استنادًا إلى الظروف المحيطة بتطبيقه.
الدكتور عبد العظيم أبو زيد، أستاذ التمويل الإسلامي في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة.
الأفكار الواردة في المقال تعتبر آراء المؤلف الشخصية، ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.